(ثقافة الإقصاء) غربية قبل أن تكون عربية وإسلامية!

إن مسألة (الآخر) والتكامل معه، أخذت تحتل مساحات واسعة في سياق اهتمامات الباحثين والمحللين السياسيين، ولاسيما بعد الأعمال الوحشية التي نفذتها بعض المجموعات الإرهابية في أكثر من دولة، وخاصة في سورية والعراق وليبيا وحتى في دول أوربية، وكذلك اتباع بعض الدول في المنطقة، ولاسيما السعودية، سياسة تكفير الآخرين، في إطار مساعيها لنشر الفكر الوهابي التكفيري الذي يعمل على تعميم ثقافة (الإقصاء).

مشكلة (الآخر) في الغرب بشكل عام وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، لا تنحصر في الهوية، أو لون البشرة، بل أيضاً في الدين والطبقة الاجتماعية.. فثقافة الولايات المتحدة مبنية على ثقافة إقصاء الغير، وإن تعددت الأشكال.

في البداية كانت الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في القارة الأمريكية مثل (الهنود الحمر)، ثم تلت ذلك ثقافة الإقصاء على قاعدة الأسس الدينية.. إذاً فخلافاً لما يشاع حول مقولة (القبول بالآخر) في الولايات المتحدة، فإن تاريخها حافل بالتمييز الديني، خاصة تجاه الكاثوليك والعرب والمسلمين، والدليل على ذلك أن الرئيس الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا، أي جون كنيدي، لم يُكمل ولايته بل اغتيل في ظروف مازالت غامضة حتى الآن. مثال آخر: هل ينسى أحد الحملة على الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما التي شكّكت في أصوله الدينية، وذلك رغم الاعتراف الأمريكي بحرية المعتقد؟

والآن في سياق حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية التمهيدية، ألم يصرح المرشح ترامب بأنه في حال فوزه بالرئاسة سيمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهناك إقصاء في الولايات المتحدة على أسس اقتصادية، وعلى سبيل المثال، يحرم الدستور الأمريكي المرأة التي لا تنتج ولا تدفع الضريبة من حق التصويت، وكذلك يحرم في الوقت نفسه أبناء الطبقات الفقيرة الذين لا يدفعون الضريبة من هذا الحق. وهناك الإقصاء على أساس الطبقة الاجتماعية، أو بالأحرى على أساس الثروة، ما يشير إلى أن المساواة بين الناس مسألة نسبية فيما يتعلق بتطبيق العدالة الاجتماعية.

فمثلاً، المتهم الفقير لا يستطيع استخدام خدمات محام جدير وقوي، بينما الثري يستطيع أن يجيّش أرتالاً من المحامين والخبراء في مجال الدفاع عن أي تهمة يمكن أن توجّه له، كما ظهر ذلك في قضية اللاعب الرياضي الشهير أوجي سمسون المتهم بقتل زوجته في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، والذي استطاع أن يفلت من يد العدالة بسبب مهارة محاميه.. كما أن مديري المصارف الكبار الذين هددوا أو اختلسوا أموال المودعين والمساهمين، استطاعوا الانفلات من تهم الفساد والسرقة بسبب مهارة محاميهم الأكفاء… وهكذا يتضح أن لائحة الأمثلة التي تؤكد ثقافة الإقصاء للآخر في الولايات المتحدة لائحة طويلة ومعقدة، ولا أحد يمكن أن ينسى وحشية قوى الأمن الأمريكي تجاه المواطنين الأمريكيين السود، إذ تشير الإحصائيات إلى مقتل ما يزيد عن ألف مواطن أمريكي أسود في عام 2015 على يد قوات الأمن الأمريكية وغالباً من دون أي ذنب يستحق القتل.

أما في أوربا (التي تدّعي العلمانية)، فثقافة الإقصاء مترسخة بقوة، فمثلاً يرفض الاتحاد الأوربي قبول عضوية تركيا في الاتحاد بسبب الدين، كما أوضح ذلك صراحة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جسكار ديستان، يعني أنه لا مكان لدولة مسلمة في الاتحاد الأوربي! أما في بريطانيا، فهناك التمييز ضد الآخر عبر مصطلحات تؤكد التمييز مثل مصطلح (الشخص الشرقي المتعرب)، حتى لو كان هذا الشخص من النخب في بلاده.. بالطبع هذه مصطلحات في غاية العنصرية للتعبير عن فكرة بريطانية مفادها أنه مهما علا شأن (الآخر) فهو يبقى (آخر).

انتخاب عمدة لندن مؤخراً من أصول باكستانية ومسلمة اعتُبر أمراً خارقاً للعادة بشكل يوحي بالعنصرية الشديدة، خاصة أن الإعلام البريطاني الذي (طبّل وزمّر) لهذا الأمر، اعترف ضمنياً أن المجتمع البريطاني مجتمع عنصري وإلا لما كانت الضرورة في إبراز أصوله، إضافة إلى كل ذلك نرى ونسمع في هذه الأيام في وسائل الإعلام الغربية والمواقع الإلكترونية الكثير من التحريض الواضح ضد الوافدين العرب والمسلمين إلى أوربا من القارة الإفريقية أو القارة الآسيوية، ومنه التحريض على السوريين والعراقيين الذي فرّوا من جرائم الإرهاب.

إذاً (مشكلة الآخر) هي مشكلة الغرب في الأصل، قبل أن تكون مشكلة العرب والمسلمين، وبالأساس فإن الحديث عن (الآخر) قد مهّد للمغامرات الاستعمارية في ما سمّي (مهمة التمدين) عند الفرنسيين، أو (القدر المتجلي) عند الأمريكيين أو (عبء الرجل الأبيض) عند البريطانيين.. إذ إن كل هذه الشعارات الكاذبة جاءت لتبرير السيطرة على الشعوب السمراء أو السوداء أو الصفراء!! فالعنصرية المتفشية في الغرب متلازمة مع (حب الذات والأنا)، وكلاهما أفرزتا الاستعمار، فالثالوث الجهنمي (العنصرية، الذاتية، الاستعمار) حدد ملامح الثقافة في الغرب في القرنين السابقين، أي التاسع عشر والعشرين.

باختصار، إن مشكلة (الآخر) مثلها مثل ثنائيات (الحداثة والأصالة) و(الحداثة والإسلام).. وهي مصطلحات عمّت الفضاء الفكري العربية، هي قضايا لا تسمن ولا تغني عن جوع، لأنها استبدال وتغطية لقضايا جوهرية كقضية التجزئة والفقر والجهل والتبعية والاحتلال.

العدد 1105 - 01/5/2024