سواحل تلفظ فقراءها… وتحضن أغنياءها

كما هذه الدنيا تُقبل على الأغنياء، فتُعزّهم وتلبسهم لباسها، وتهبهم حليها وتباهي بهم من سبقهم من فاحشي الثراء على مدى الدهور، هي في الوقت ذاته واللحظة نفسها تُعرض عن فقرائها فتذلّهم، وتعرّيهم، وتقهرهم وتطردهم من نعيمها، وتتمنى لو تمحوهم عن أرضها وسمائها وبحرها وتتنكر لهم كما تتنكر امرأة لوليدها الذي أتى بالخطأ فسبب لها العار، فلا بد من الخلاص منه.

كل الفقراء في كل أنحاء العالم يشعرون بالخذلان من هذه الدنيا، ولفقراء سورية في هذه الحرب النصيب الأكبر من شعور كهذا، فبعد أن سدت  الحرب السبل في وجههم، فحرمتهم ودنياهم الهناءة والسرور، وأعملت عجائبها التدميرية في نفوسهم، ولحظات حياتهم، أفقرت متوسط الحال وأعدمت الفقير،
وصار الهم الكبير بالنسبة لهم كيف يحولون دون فتك الجوع بأطفالهم، فقد أشاحت الدنيا بوجهها، عن أكثر من نصف الشعب السوري، إلا أن أكثر ما يؤلم بالنسبة للفقير هو مشهد الوقاحة، واستعراض الأموال، والتمتع بالملذات أمام من حرم من كل ذاك،
ولا يتوقف الحديث هنا فقط عن مظاهر الطعام والشراب، والبيوت الفخمة، والسيارات الحديثة التي يباهي بها الأغنياء، وخاصة محدثي النعمة الجياع سابقاً، ولا تخافوا إلا من (نفوس شبعت بعد جوع فالخير فيها دخيل)، بل يتعداه إلى وقاحة أصعب، ويجري الحديث فيها كثيراً هذه الأيام عن امتلاك الشواطئ واحتكارها، التي من المفروض أن تكون، ولو في جزء من مجالها الواسع، مخصصة لمحدودي الحياة إن صحت تسميتهم، فمحدودية الدخل لم تعد صفة تفيهم حقهم.

يشتكي سكان اللاذقية وطرطوس وبانياس، وهم سكان المدن الساحلية، أن مدنهم لا تختلف عن أية مدينة لا بحر فيها، ويغالون في القول فيصفون حالهم كحال من يسكن دمشق أو حلب أو حمص حتى، فبحرهم لم يعد لهم،
وشواطئهم تلفظهم وتحتضن فقط من يدفع أغلى أجر لأصحاب المنشآت السياحية، الذين احتكروا الشواطئ، وجعلوا من السباحة على الشاطئ حلماً يراود محدودي الحياة.

في كل بلدان العالم والمتقدمة منها على وجه الخصوص، من يريد أن يستثمر على شاطئ ما فيبني منشأة سياحية، يجب عليه أصولاً أن يترك مجالاً ضمن تلك المنشأة للسباحة المجانية، وفي بلادنا وعلى شواطئنا لم يعد شيء بالمجان متاحاً،
فعندما يستثمر كل شبر من الشاطئ، حتى وإن كان الشاطئ مجانياً كشاطئ وادي قنديل، أو الشاطئ الأزرق، هنالك دائماً من يستغل الناس ويأخذ منهم أثمانا باهظة، ربما فقط لتأمين شمسية وطاولة وبعض الكراسي.

ولن ننسى الإهمال والأوساخ، والضغط البشري الهائل، ولن نتغافل أيضاً عن خلو تلك الشواطئ من المشالح النظامية، والدوش الجانبي المجاني، فمن يخرج من البحر يجب عليه أن يغسل جسمه من الملح،
هكذا هي الشواطئ في كل بلدان العالم، أما هنا فيجب على مرتاد الشاطئ أن يلبس مسبقاً لباس البحر، فلا مشالح على الشواطئ، ومن يخرج من البحر عليه أن يذهب فوراً الى منزله، كي يزيل عنه آثار الملح، لأن الشاطئ غير مخدّم بمياه عذبة(الدوش).

لم يبقَ بالنسبة لأهالي اللاذقية إلا هذان الشطان، المفتوحان والمجانيان، بعد أن استغل كل شبر من الشواطئ، بالمنشآت السياحية والشاليهات.

لكن ماذا عن الفقراء في دمشق وحلب وحمص وباقي المحافظات؟ ألا يحق لهم التمتع ولو قليلا بالبحر؟ كيف لعائلة محدودة الدخل أن تستأجر شاليهاً، وإيجاره في اليوم لا يقل عن 15_20 ألف ليرة سورية، دون الطعام والشراب، بينما متوسط الرواتب شهرياً لا يتعدى الأربعين ألف ليرة سورية.

حديثنا هنا دائماً عن الفقراء، لن نسهب في الحديث عن الأرقام الفلكية للمنتجعات السياحية، التي فاقت حدود العقل في هذا الموسم السياحي بالذات، فقد وصلت بعض الأسعار إلى تسعين ألف ليرة سورية للغرفة الواحدة يومياً؟ وأقلها أربعين إلى ستين ألف ليرة للغرفة يومياً، دونما طعام أو شراب، فقط إقامة؟

العتب كل العتب على وزارة السياحة، فالأسعار يجب أن تراعي الدخل أولاً، وعليها يقع أيضاً مسؤولية تأمين شواطئ مجانية، بخدمات مقبولة أسوة ببلدان العالم الذي حولنا.

العتب أيضاً على من يغرق الشواطئ بالمنتجعات ذات الأسعار اللاهبة، فكل يوم نسمع عن افتتاح المزيد المزيد من الفنادق والمطاعم السياحية التي تنتشر على الشطآن، ولن يرتادها إلا كل غني قديم أو ثري حديث.

حتى شم الهواء وملامسة الماء صار حكراً على الأغنياء، ولمحدودي الحياة أن يحدوا من كل مظاهر الحياة وينسوا كل ذلك إلى أن يأتيهم الموت.

 

العدد 1104 - 24/4/2024