خنساوات من فلسطين

ظاهرة هي وليست حالة معزولة أو فردية، فأمّ فرحات وأمّ نبيل جلس وأمّ أحمد العابد، وفاء إدريس، نورا شلهوب، دارين أبو عيشة، آيات الأخرس، ريم الرياضي، إيرينا بينسكي، دلال المغربي، سلسلة من أمهات وشابات فلسطين يشكّلن اليوم ثورة حقيقية على واقع الهزيمة والجبن والضعف والتردد، ثورة على الزعامات التقليدية، ثورة على التثاقل إلى الأرض على حساب الكرامة، ثورة على قيود الواقعية.

لقد كان لانتفاضة شعبنا الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني وسرقة وطنه تأثير كبير على تكوين الشخصية النسائية الفلسطينية، إذ وصلت المرأة أو الفتاة الفلسطينية إلى درجة من النضج الفكري والوعي السياسي دفعها إلى إثبات شخصيتها ودورها بإدراك أهمية العمل الفدائي، وما كان لهذا الجيل النسائي المتفرد أن يواصل شق طريقه المزروع بالمتفجرات والمعمد بالآلام والمعاناة والدم لمواجهة موجات البغي والعدوان التي عصفت به وبوطنه أرضاً وشعباً، لولا أنه حوّل الدموع والجراح صخوراً صلدة، والأنوثة والرقة والعذوبة والعواطف جبالاً شامخات. العطاء اللافت للفتاة والزوجة الفلسطينية والأم ارتفعت وتيرته مع ارتفاع أعداد الشهداء من الجيل الشبابي حتى تجاوزن في عطائهن وبطولاتهن وتضحياتهن وأدوارهن الاجتماعية والإنسانية كل الحدود، فتعدت مشاهد التضحية عندهن مراحل الصبر والتحمل وتحولن من أمهات حاضنات لمشروع الشهادة الذي أنجبنه من أرحامهن إلى استشهاديات رائدات اكتشفن سر العلاقة بين الحياة والموت وبين الفناء والبقاء.

ولعل كثيرين يذكرون تلك اللقطة التي بثتها الفضائيات العربية في أعقاب اجتياح مخيم جنين، حين ظهرت إحدى الفلسطينيات وهي تتطلع إلى الخراب والدمار الذي أحدثته عملية افتراس المخيم، ثم قالت: (الفلسطينيون لن يركعوا ولن يستسلموا، ولكننا سنظل ننجب وننجب لكي نعدّ لهم أجيالاً لا تنضب من المقاومين).

وكتبت نورا الفاخوري في صحيفة إماراتية: (لو كنت فلسطينية في زمن ريم الرياشي لوددت أن يعلمني أصحاب النظريات الحديثة نظرية أستردّ بها أرض أهلي وأحافظ بها على بيتي وأرضي وكرامتي، بعد أن فشلت كل التجارب ومن ضمنها المفاوضات في الحفاظ على أي حق مغتصب في فلسطين، فهل من متبرع؟!

ولهذا كان الأمر طبيعياً أن ترى الأم الفلسطينية تزغرد عند استشهاد ابنها، والزوجة تودع زوجها بدمعتين، الأولى حباً والأخرى فخراً، الأمر الذي دفع إحدى النساء المصريات للاتصال الهاتفي من خلال أحد البرامج التلفزيونية لتنقل ما يدور في خاطرها عندما شاهدت النساء الفلسطينيات يودعن أبناءهن وأزواجهن شهداء فوق تراب فلسطين فتقول: (هل المرأة الفلسطينية امرأة خارقة، فهي ترى زوجها وأخاها وابنها يستشهدون أمامها ثم تبعث بباقي أبناءها لكي يستشهدوا؟ هل تتحمل المرأة الفلسطينية كل ذلك، ومن أين أتت لها القدرة على هذا الصمود؟

لقد شكل دخول الفتاة الفلسطينية ساحة العمليات الاستشهادية بهذه الدرجة من الجسارة حالة غير مسبوقة تاريخياً.

ومن الواضح أن المكسب الذي أضافته الاستشهاديات هو مكسب نوعي إلى سجل المرأة الفلسطينية، إذ إن ثقافة الاستشهاد هي ثقافة جديدة على العدو الصهيوني، ومحللوه العسكريون والأمنيون ينظرون إليها على أنها أسلحة الدمار الشامل التي يستخدمها الفلسطينيون لكون العملية الواحدة قادرة على قتل عدد كبير من قواته.

ذات يوم وقفت أم نضال فرحات تصرخ ببيان الفصحاء ودماء الشهداء ودم المجاهدين لتؤكد للعالم كله أن فلسطين من البحر إلى النهر حق لن يتنازل عنه شرفاء الأمة حين قالت: (لا توجد أم في الدنيا يهون عليها ابنها، ولكن في سبيل الله، ثم تحرير الوطن ترخص كل الدنيا، إذا أنا منعت أبنائي من الجهاد، وهذه منعت، وتلك منعت، فمن الذي سيدافع عن فلسطين ويحرر الأقصى؟).

قالت النائبة البريطانية عن حزب الأحرار جيني توبخ إنها لو كانت أماً فلسطينية لسعت للانضمام إلى الفدائيات، لكنها لم تكن وحيدة في تفهمها لحقيقة التحدي الذي يهدد شعب فلسطين، فقد كان هناك وعي بتلك الحقيقة بين بعض الصهاينة أنفسهم، ففي حديث أدلت به الكاتبة اليهودية إيلانا هوفمان قالت (إنه من النفاق أن يدعي عدد من قادة الدولة استهجان أن تقوم أم فلسطينية بتنفيذ عملية ضد قواتنا رغم أنه من الطبيعي أن يهبّ أي إنسان لقتل أولئك الذين يقتلونه ويسلبونه الحق في العيش بكرامة، ولا يتغير الأمر كثيراً إذا كان الفاعل شاباً أو رجلاً أو طفلاً أو عجوزاً أو أماً ترعى أولادها).

لم تكن إيلانا هوفمان وحيدة في شعورها بالخطر أمام اتساع ظاهرة قيام الأمهات الفلسطينيات بإرسال أبنائهن لتنفيذ عمليات استشهادية، إذ إن قيادات سياسية وعسكرية صهيونية رفيعة المستوى شاركتها القلق من تنامي هذه الظاهرة، باعتبار أن ظاهرة الأمهات أوصلت رسالة كبيرة من الخوف والهلع إلى نفوس المجتمع الصهيوني على حد تعبير الكاتب الصهيوني إيجال سيرتا الذي كان يعلق على مشهد أم نضال فرحات قائلاً: (إن ما قامت به أم فرحات ينذر بمستقبل سيئ لإسرائيل، لأن من يشاهد هذه المرأة وهي تودع ابنها بكل هذا الحمال، يصل إلى قناعة مفادها أنه لا يمكن إخضاع الشعب الفلسطيني بالقوة مطلقاً).

وأما الكاتب الصهيوني شاؤل بريمان فقد كتب (إن ما تمثله هذه المرأة ينبغي أن يشكل الضوء الأحمر في دوائر صنع القرار الإسرائيلية، فهذا الحادث يدل على أن معنويات الشعب الفلسطيني غير قابلة للتآكل).

العدد 1105 - 01/5/2024