حلب تتحرر من الإرهاب

كم كان مثيراً التجول لأول مرة في أحياء حلب المحررة حديثاً من الإرهاب المدمر.. وكم كان محزناً مشاهدة الدمار الكبير.. وكم كان مفرحاً القدرة الإعجازية لجيشنا البطل وهو يحرر كل هذه المساحات، وكل هذه الحارات والشوارع والأحياء..

تجولنا – مجموعة من الرفاق – في كل الأحياء المحررة، وزرنا منازل رفاقنا هناك، الذين نزحوا وعادوا ليصلحوا ويعيدوا ما يمكن إعادته ليعاودوا السكن في بيوتهم عند توفر الخدمات ولو بحدها الأدنى، كما زرنا من لم ينزح منهم وبقي برغم كل المضايقات والمعاناة.

في بيت الرفيق الشهيد عمر عوض الذي استشهد في أحداث الثمانينيات على يد مجرمي (الإخوان المسلمين)، التقينا أحد أبنائه، الرفيق بشار، وهو ممن صمد وبقي وعاين بشكل مباشر كل أنواع المسلحين (المعتدلين)! وكل أصناف الإرهابيين، وعانى منهم ومن فوضاهم وإرهابهم..

حكى لنا عن المعاناة في العيش مع أولئك المدعين للتديّن، والمدعين للحكم باسم الشريعة، وقد سجنوه لمدة سنة ونصف في أحد معتقلاتهم.. تكلم عن عدم مهادنته، وتكلم عن عدم تحمّلهم لأي نقاش وفي أي شأن كان.

اتهموه مرة بالشيوعية، ومرة بـ(التشبيح)، ويقصدون الموالاة للدولة.. لكن الصمود والرجولة الحقة أنه لم ينزح حتى بعد إطلاقه.. بقي محتضناً من بقي من عائلته يمدهم بالقوة والتجذر بأرضهم، برغم استشهاد ابنه البكر (عمر عوض الصغير).. وبرغم كل المخاطر المترتبة على البقاء في مناطق حرب حقيقية..

هذه حلب.. وهذا شعبها

وجدناه قوياً، مؤمناً بكل ما فعله، قادراً على الاستمرار برسالة الشيوعية، وبرسالة الوطنية..

وجدنا في من وجدناهم هناك إصراراً على المتابعة ومعاودة بناء ما دمرته الحرب، والتكيف مع كل الظروف، برغم ظروف صعبة بل كارثية يعيشون ضمنها هي باختصار انعدام كل شروط الحياة الضرورية من ماء أو كهرباء أو محلات تبيع أي شيء خلال مرحلة التحرير.. لذلك اضطر كثيرون للنزوح إلى الأحياء الغربية فضلاً عن الرعب من الحرب والاشتباكات العنيفة..

المطلوب اليوم بعد إنجاز الجيش، ولتكريس الانتصار سياسياً وشعبياً، سرعة تصرف أجهزة الخدمات في الدولة: (مجلس المدينة) لإزالة آثار الحرب من أنقاض وسواتر ترابية وغيرها، ومتابعة فتح الشوارع، وما أنجز منه في أول التحرير عمل كبير ويستحق الاعتراف بسرعته وكفاءته ويحتاج المتابعة للشوارع كلها، بما فيها الفرعية والضيقة، لتسهيل وصول الآليات إلى كل مكان..

المطلوب تأمين خزانات الماء الكبيرة في كل الحارات ريثما تتمكن مؤسسة المياه والصرف الصحي من صيانة الشبكة، وكذلك الكهرباء تحتاج إلى حل إسعافي ولو من قبيل الترخيص للمولدات بشكل مؤقت ريثما تتمكن مؤسسة الكهرباء من صيانة الشبكة لتكون جاهزة عندما تصل الكهرباء إلى مدينة حلب عموماً..

المطلوب تشكيل لجان الأحياء وإطلاق عملها لتوزيع المازوت والغاز، وإعادة الحياة للأفران، وتوزيع حصص غذائية ومساعدات متنوعة، لأنه لا شيء متوفر هناك اليوم، وتحتاج الأوضاع إلى تنظيم ومسح وتحديد عدد السكان والعائدين ودراسة احتياجاتهم الضرورية خاصة في ظروف البرد القارس..

الشعب السوري في حلب صمد وانتصر بصموده الإعجازي، بموازاة بطولة الجيش الإعجازية.. ويبقى على الحكومة وأجهزتها في حلب وضع الخطط الملموسة لملاقاة صمود هذا الشعب العظيم ومعاناته، وستعود الحياة شيئاً فشيئاً، وبوتيرة أسرع من كل التوقعات مهما تفاءلت..

بدأت الوحدات الشرطية تعود لمخافر الشرطة.. وبدأت مديرية التربية تخطط لافتتاح بعض مدارسها.. وهذا يدعو للتفاؤل ويحتاج للمتابعة وتوفير الإمكانيات اللازمة..

في تتمة جولتنا في الأحياء المحررة، وصلنا إلى القلعة، قلعة حلب، مالئة الدنيا وشاغلة الناس.. كان مشهداً مؤثراً وشعورنا تنقل بين العزة والحزن، الفرح والفخر، الغصة بسبب الفقد والشوق للقاء الحبيب الغائب..

كانت الفرقة النحاسية تعزف النشيد الوطني عند وصولنا. المئات كانوا هناك. رددوا دون اتفاق كلمات النشيد: فلم لا نسود ولم لا نشيد؟ سقطت بعض الدموع المتحيرة باسمها: فرح – حزن – فخر -… ليش هيك صار فينا؟ الشعب السوري بيستاهل الأفضل والأجمل.. تنوع رائع كان موجوداً يردد كلمات النشيد ويحس بما يحس، وطنيةً وتاريخاً..

الكل صوّر القلعة، وكأنه يستعيدها ويثبت هذه الاستعادة.. كنا مؤمنين جميعاً بهذا اليوم، بأنه سيأتي، من وراء الغيوم.. كأننا كنا نسمع صوت صداه من وراء التخوم.. وأتى وسيحيا برغم الضباب، برغم الرياح السموم.

الأذى في القلعة قليل، لم يستطع الإرهاب خدش هيبتها.. لكن الضرر المؤلم والجارح وجدناه في (المدينة) سوق حلب التاريخي وقلبها التجاري، وفي (الجامع الكبير) أيضاً مشاهد مؤلمة وجارحة للقلب والعين.. للذاكرة وللتاريخ القريب والبعيد.. تذكرنا كم مرة دمرت حلب؟ وقلنا وكررنا فيما بيننا وللقريبين من حديثنا، سيحييها شعبها العظيم الذي أحياها أول مرة، وثاني مرة وثالث مرة…

كل سوريتنا بأيدينا سنعيدها، بمساعدة الأصدقاء والحلفاء..

سوريتنا.. حبيبتنا.. شعبها كان قادراً دائماً وهو قادر اليوم أيضاً على بنائها..

سلاحه ثقافته، عزيمته، إرادته.. ولتحرر الدولة قطاعها العام الإنشائي والصناعي ليكون البناء بيد لصالح الكادحين بسواعدهم وأدمغتهم، بأرضية اشتراكية، ولتحفز القطاع الخاص المنتج..

وفي السياسة لتقم وتتابع مبادرات الحوار السياسي السوري السوري لإنهاء الأزمة..

وفي العمل العسكري لتتابع مكافحة الإرهاب وتحرير كل شبر من أرض سورية الموحدة أرضاً وشعباً، العلمانية التعددية الديمقراطية، ليشارك الجميع في بناء دولتهم العصرية، دولة مركزية قوية قادرة عادلة ضامنة راعية لكل مواطنيها..

حلب فتحت شهيتنا بتحريرها للكلام بالسياسة أيضاً وأيضاً.. 

العدد 1105 - 01/5/2024