التجويع من أقدم أسلحة الإبادة!

د. صياح فرحان عزام:

سلاح التجويع ليس سلاحاً نووياً ولا ذكياً، وليس من اختراع هذه الأيام، بل هو أقدم سلاح في الكون- كما أكد ذلك العديد من الباحثين، ويلجأ إليه المحاربون من أجل إضعاف الخصم، وبالتالي تحطيم قوته وإرادته وتسهيل إبادته.. وقد شهدت العديد من الحروب مجاعات واسعة النطاق أدت إلى مقتل ملايين الأشخاص بسبب نقص الغذاء والماء وفقدان الدواء وانتشار الأمراض.

وعلى سبيل المثال: كانت القوات النازية أول من استخدم هذا السلاح بهدف الضغط على الحكومات والشعوب المعارضة لها، وكانت تهدد بالمجاعة في المناطق التي ترفض التعاون معها أو تقاومها، كما استخدمت النازية المجاعة أيضاً وسيلة لإيجاد حالة من الفوضى والضعف والانهيار في البلدان التي كانت تتوغل فيها عسكرياً، وذلك لزعزعة الاستقرار وتسهيل عملية احتلالها.

إذاً، استخدمت النازية سلاح المجاعة لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية معاً.

في الحرب العالمية الثانية عانت العديد من البلدان من مجاعات واسعة، وقد حدثت أكبر مجاعة في الفترة ما بين 1941-1944 في الاتحاد السوفييتي، وقضى ملايين الأشخاص بسبب الجوع والأمراض الناتجة عنه، والمجاعة التي حصلت في لينينيغراد هي واحدة من أكبر المجاعات في العالم، وقد بدأت بحصار القوات النازية للمدينة ابتداء من شهر أيلول 1941، ما أدى إلى تعرّض السكان لنقص حاد في الطعام والماء والوقود، الأمر الذي أدى إلى انتشار الجوع والأمراض، وعاش الناس في ظلام دامس نتيجة لانقطاع التيار الكهربائي، في الوقت الذي كانت تنهار فيه هياكلهم الجسدية بسبب الجوع واضطرار البعض إلى تناول الأطعمة الفاسدة وأعلاف الحيوانات، ما جعل الناس يسمّونه (الجوع الكافر)، ذلك الجوع الذي يوهن العقل والجسد والإرادة وحتى الإيمان.. وقد راح ضحية تلك المجاعة أكثر من 16 مليون شخص في مدينة واحدة.. وبالطبع كان لتلك المأساة الإنسانية أثر سلبي كبير على السكان نفسياً، حتى إنها استمرت لسنوات بعد انتهاء الحصار، ولكن مع هذا كانت معنويات سكان لينينغراد عالية جداً، خاصة مساندتهم للجيش السوفييتي الذي تمكن من كسر الحصار في شهر كانون الثاني عام 1944 وإعادة فتح المعابر وإمداد المدينة بالمواد الغذائية.

لا شك أن مأساة لينينغراد تعد من أبشع الكوارث الإنسانية التي شهدتها البشرية، وهي من صنع وتنفيذ الفكر النازي الألماني المتطرف الذي اندحر بفضل بطولات وتضحيات الجيش السوفييتي وشعوب الاتحاد السوفييتي السابق.. وإذا كانت النازية الألمانية قد اندحرت آنذاك، نراها اليوم تعود على يد كيان الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فعلى مدى أكثر من ستة أشهر ارتكب الجيش الصهيوني مجازر دموية مذهلة رح ضحيتها ما يزيد على نحو 35 ألف قتيل، أكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ إلى جانب إصابة أكثر من 75 ألفاً، وترافقت هذه المجازر بحرب تجويع واسعة النطاق لسكان قطاع غزة، من خلال إقفال المعابر المخصصة لعبور المساعدات وتدمير الشاحنات التي كانت تنتظر دوراً للعبور إلى القطاع، وسرقة محتوياتها من قبل الجنود الصهاينة، ووصل الحقد الصهيوني إلى درجة إطلاق النار على تجمعات الفلسطينيين التي كانت تنتظر وصول المساعدات، كما حصل في أكثر من مكان (عند دوار الكويت) وغيره، ما أدى إلى استشهد العديد، كانوا ينتظرون رغيف الخبز وزجاجة الماء أو الوجبات التي كانت تسقطها طائرات بعض الدول.

وهنا، الأمر المضحك، في الوقت نفسه، أن الولايات المتحدة كانت تزود عبر طائراتها، كيان الاحتلال بالأسلحة عبر رحلات منتظمة وشبه يومية، بينما تُلقي من سماء غزة وعبر طائراتها فتات الوجبات الغذائية بين حين وآخر، للتغطية على دعمها لكيان الاحتلال عسكرية وسياسياً..

وهذا ما يشكل قمة النفاق وانحيازاً للقاتل ومرتكب جريمة التجويع.

العدد 1105 - 01/5/2024