الانتخابات البلدية التركية.. مفاجآت ومؤشرات مهمة

د. نهلة الخطيب:

تشير النتائج الانتخابية البلدية التركية (30-31 آذار الماضي)، إلى حجم التراجع الذي ناله حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ أكثر من عقدين من الزمن، مقابل التقدم الذي أحرزته قوى المعارضة البرلمانية الأخرى، وأن هذه النتائج أفرزت نظاماً ثنائي الأحزاب (الحزب في المركز الثالث بفارق كبير عن الحزبين الأول والثاني).

وفي الوقت الذي تظهر فيه هذه النتائج، حجم التراجع الانتخابي للحزب الحاكم، وتالياً آثاره حزبياً وجماهيرياً، فإنها تؤشر إلى الصعوبات الانتخابية الرئاسية التركية، وكذلك البرلمانية القادمة 2028، وهذا ما تؤكده الأوضاع التركية القائمة، والموروثة عن نتائج انتخابية سابقة، منذ تصدّر حزب أردوغان غيره من الأحزاب برلمانياً ورئاسياً أيضاً، ومن الصعوبة الحديث عن خلافة أردوغان، فهي هزيمة لحزب العدالة والتنمية، وليس لأردوغان، الذي لن يتمكن وفقاً للدستور من الترشح للانتخابات، إلا من خلال دستور جديد.

وبقدر ما يُنظر إليها على أنها انتصار للمعارضة، تعتبر فشلاً للحزب الحاكم، فهناك الكثير من التفاصيل وسط هذه الهزيمة، وهناك عوامل مرتبطة بأداء الحزب الحاكم والحزب المتحالف معه، كلها أدت إلى تراجع شعبية هذا الحزب، وفقدانه الأغلبية في العديد من المدن، وخسارة مدن رئيسية: (إسطنبول وأنقرة وأزمير وبورصة)، والتقارب الكبير للنسب الانتخابية في عدد آخر منها، وبالرغم من أنه حافظ على مرتبته الأولى في بعض المدن، ولكن لوحظ تناقص واضح جداً بعدد الأصوات، وتقدم ملموس وظاهر لحزب الشعب، حتى الفاتح في أسطنبول التي تعتبر قاعدة وقلعة المحافظين، خسر فيها حزب الشعب الجمهوري لصالح حزب العدالة بفارق بسيط، أوسكوتار حيث يقطن أردوغان، ومنطقته التي ولد فيها، ويحكمها منذ 25 سنة، الآن خارج سيطرته.

أردوغان في خطابه قال (إنها ليست النهاية، وإنها نقطة تحول، وسنعالج الأمر بالشكل المناسب)، واختار أن يكون هناك نقد ذاتي، وكيف يجب أن يكون الحزب (فهذا ما يجب أن نراقبه)، في إشارة إلى الغطرسة، فكما أي حزب حاكم يبقى في السلطة طويلاً (22 عاماً)، بدا ظهور الفساد وإساءة استخدام السلطة، أو المبالغة فيه، وليس آخرها فضائح الفساد المقدرة بمئة مليار دولار التي شارك فيها العديد من الوزراء وأبنائهم، فضلاً عن سوء إدارة آثار الزلزال. ولكنه خطاب في إطار تصريحات فقط، البعض يشكك فيها، وهناك تصريحات ووعود قدمها أردوغان مازالت تثير التساؤلات في الداخل التركي، مما أدى إلى تغير المزاج الانتخابي، وملايين الناخبين من حزب العدالة والتنمية امتنعوا عن التصويت.

وخلافاً للنتائج الانتخابية السابقة فإن حزب أردوغان يواجه العديد من الإشكاليات الحزبية والانتخابية أيضاً، وفي الصدارة منها مواقف حكومته من جهة، والتباينات في مواقف رموزه القيادية الأخرى من جهة ثانية. كذلك الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها تركيا منذ سنوات، والتي عكست نفسها على الحملة الانتخابية البلدية ونتائجها أيضاً. ولا نتجاهل هنا (التباينات) المعلنة، والتي تؤكد بمجموعها حجم الصعوبات التي يعانيها حزب العدالة والتنمية والتباينات في صفوف قيادته الأولى التي أنشأت هذا الحزب، حول كيفية معالجة الأوضاع التركية الداخلية أولاً، وشبكة العلاقات الإقليمية والدولية ثانياً، إلا أن هذه النتائج تؤشر إلى العديد من الحقائق ومنها:

أولاً- المعارضة السياسية التي اعتاد أردوغان على أدائها، والتي كانت تجمعهما مصالح متبادلة، قد تغيرت، اليوم هو أمام معارضة مختلفة، فمنذ 8 أشهر جرت إعادة تشكيل لهيكل المعارضة السياسية، والإطاحة بزعيمها كمال كليشيدار أوغلو، وفوز أوزغور أوزيل، إذ لم يحدث في تاريخ السياسة الحزبية التركية، أن تجري الإطاحة برئيس حزب من داخل الحزب عبر انتخابات صناديق اقتراع داخلية، فقانون الأحزاب التركية يشبه القانون الشمولي الاستبدادي التام، الذي يعطي الصلاحيات كاملة لرئيس الحزب أيّاً كان، لا يتغير ولا يتبدل، وبالتالي التغيير الجوهري، ساهم في فهم الصراع الحالي في تركيا، الأمر الآخر وهو الأهم، أننا أمام تغيير اجتماعي، ذلك أن حزب الشعب الجمهوري منذ عام 1977 حتى هذه اللحظة لم تتجاوز أصواته في عموم تركيا حاجز 20%، حتى ضمن التحالفات التي حصلت بينه وبين أحزاب أخرى، لديه ذاكرة تاريخية عند البعض سيئة للغاية، وخاصة في مناطق الأناضول، فالمواطن التركي البسيط لا يصوت له، كان صوته يذهب إلى أحزاب سياسية أخرى حتى لو كان معارضاً لحزب التنمية والعدالة، ولكن اليوم أضنة قلعة من قلاع المحافظة تذهب إلى الحزب الجمهوري، مانيسا قلعة من قلاع الحركة القومية وكانوا يكتسبون خلال السنوات الماضية 70 -80%، إذن اليوم انتصار حزب الشعب يؤكد على تغيير اجتماعي في المعادلة، فالناخب التركي لا يرى حرجاً أن يصوت لحزب كان يعتبره معادياً للإسلام، فقد أدرك اليوم أن الحزب الجمهوري ليس معادياً للإسلام، والصورة النمطية التي كان يستخدمها أردوغان ضد المعارضة، بأنهم سيمنعون الأذان، والحجاب، وكثيراً من القضايا التقليدية الأساسية التي كان يرتكز عليها، ورغم استخدام ماكينة الدولة الإعلامية، وغيرها من الوسائل المؤثرة انتخابياً، فهذا الخطاب في الوقت الراهن لم يعد يجد له صدى، بدليل أن الناس ذهبوا للتصويت لهم.

ثانياً- فشل حكومة أردوغان، وتالياً حزب العدالة والتنمية الحاكم، في حل أزمة البلاد الاقتصادية، التي تشهد تدهوراً حاداً، مقارنة بالأعوام السابقة، التي حصد بفضلها أردوغان الأغلبية البرلمانية والبلدية وتالياً الرئاسة، وفشل في طرح منهج اقتصادي يمكن أن يأتي بإيجابيات للمواطن، فالاقتصاد هو الدافع الأساسي الذي انعكس على الجانب الاجتماعي، الضائقة التي يعاني منها الشعب التركي بسبب الأزمة الاقتصادية أدت إلى عزوف الكثير من قاعدة الحزب عن التصويت، وخاصة المتقاعدين، وجعلته لا يهتم من هو أكثر إسلاميةً من غيره، والآن واقع المشهد السياسي في تركيا مع النظام الرئاسي، وبالتالي غياب مفهوم القانون والعدالة، وغياب سلطة العدالة الذي ينعكس على النظام الضريبي، وعلى كل مفاصل البلد، مما أبعد المستثمرين، وبالتالي الإشكالية كبيرة، وهذا ينعكس على الجانب الاقتصادي. إذاً، الاقتصاد هو الفاصل والملف الأهم في الداخل التركي، فيما يخص إمكانية تحول منهجية الحزب اتجاهه، بهذه المرحلة الحرجة إقليمياً واقتصادياً، للاستعداد للانتخابات الرئاسية القادمة.

ولهذا ينظر باهتمام إلى النتائج الانتخابية البلدية، التي تعد مؤشراً مهماً للانتخابات الرئاسية المقبلة، وإلى الانتخابات البرلمانية في بلد يجمع في تعاطيه بين السلطتين الرئاسية والبرلمانية، ويواجه راهناً، وعلى المدى القريب، العديد من عناصر فشل سياساته السابقة وإن بدأت نتائجها أولياً في انتخابات آذار البلدية، فإنه من المتوقع أن تشهد حراكاً شعبياً وحزبياً حاداً حولها، في مرحلة التحفيز للانتخابات المقبلة الرئاسية والبرلمانية على حد سواء.

العدد 1105 - 01/5/2024