ربيع بلا أعياد

وعد حسون نصر:

لا دفء في منازل خيّمت فوقها هموم الغربة، إنها الغربة بلا اغتراب في بلادنا، غربتنا في مدينتنا أو في شوارعنا وبين ناسنا. لا رائحة عطرة في أجواء ربيع تلوّث بالقهر ومحا الظلام ملامح خضرته، ربيع هجرته الطيور ولم تجد بين أغصان أشجاره وطناً لها، طيور غدت أوكارها حطباً وناراً ورماد في مواقد الفقراء، حتى جمر تلك المواقد بات اليوم شاحباً حزيناً. ربيعٌ جفّت سواقي أنهاره، وهجر المطر غيومه، لياليه باردة، وصباحاته تعمّها فوضى البحث عن وسيلة لكسب لقمة العيش، حتى بساط الطفولة الأخضر الساكن في مخيّلتنا والمطبوع على أغلفة دفاترنا، أول قلم تلوين في حقيبتنا يكون اللون الاخضر لنلوّن به عشب حقول رسوماتنا في فصل الربيع، لونٌ أخضر غدا كالحاً، مكبّات وحاويات تعجُّ فيها فتية تنبش القهر من قماماتها!

كُنّا صغاراً ننتظر الربيع لنجمع باقات الزهور الملوّنة حين نلهو بين الأشجار في حدائق مدينتنا وكأنّنا طيور تفرد أجنحتها للشمس. ربيعٌ تجمعنا أعياده المتناثرة، فتارةً نُغنّي للمرأة وأخرى للمعلم، وبعيد الأم نكتب لها أجمل عباراتنا في انتظار المساء لنتذوّق أشهى المأكولات وقالب الحلوى المعجون بالحب والمزيّن بحنان أناملها رغم بساطته، لكن مذاقه مازال يُدغدغ إحساسنا قبل ألسنتنا.

ربيعنا الدافئ ذهب مع قوافل المهاجرين، غرق مع قوارب اللاجئين الهاربين، أغرقه الذلّ مع تعب الباحثين عن مأوى بين زوايا الوطن. ربيعنا اندثر في مكبّات القهر وأضحى رماداً واهياً في مدافئ المساكين.. وعيد الأم بات للبكاء فوق قبور أبناء حصدهم الموت مُتعدّد الأسباب، أو للوقوف ساعات أمام صور أحبائنا الذين أضحوا مفقودين لا نعلم هل هم أحياء أم أموات نكلمهم ونسألهم العودة تارة، أو نرثيهم بكلمات تُبرّد نار غيابهم تارة أخرى!!

ربما باتت كل الفصول تمرُّ على السوريين بلا ذكريات، أو تمرّ ذكريات مُغمّسة بقهرهم وذلّهم وتعبهم، مُغمّسة بهمومهم فتحفر تعبهم أخاديد على وجوههم. لكن يبقى الربيع فصل المحبة وشهر الأعياد، شهر النساء والعطاء، شهر الحياة ففي آذار خُصِّص يوم للمعلم ويوم للمرأة، ويوم للأم، ويوم للاحتفال بالعطاء يتساوى الليل والنهار في يومه العاشر، أمّا في يومه الحادي والعشرين من آذار فيتغلّب نهاره على ليله لنبقى ساعات أطول مع أمهاتنا. أمّا في نيسان فقد أزهر الاستقلال ورشفنا روعة الحرية. وفي أيار زيّنا ساحة المرجة بأبطال مجّدوا الأوطان.. هكذا كان ربيعنا في السابق. أمّا اليوم، فقد بات الربيع رمزاً للدمار، وباتت أعياده هموماً لا تنتهي. أمنيات كثيرة أولها ربيع دافئ وحياة كريمة وسلام وأمان، وقوافل تحمل أحبتنا بأعياد تجمعنا كما كنّا، طيور تقطن الأغصان فلا تنبني أعشاشها في فتحات الجدران، وشمس توزّع الدفء على الجميع فقد تعبنا من تواريها خلف غيوم الهموم. نعم، نحن نحتاج إلى ربيع البركة أيام زمان، نحتاج إلى الحب فقد شاخت القلوب من تراكم الحقد. نحن نحتاج إلى الأمل بعد أن ضاعت الأماني خلف الخذلان، نحتاج إلى الراحة التي افتقدناها بعد أن ضاعت أيامنا جرياً ولُهاثاً خلف لقمة العيش. نحتاج إلى رائحة الزهر، إلى عبق الجوري ونفحات نسيم يحمل حبيبات الطلع من الأزهار والأشجار، فنحن لا نريد الآن سوى ربيع نشعر معه بالسلام والأمان والإنسانية لأننا جديرون بها.

العدد 1104 - 24/4/2024