لينين والثورات

عبد الرزاق دحنون:

بعد أشهُر من الثورة الروسيّة، حاجج لينين في كرّاسه المشهور الصادر للمرّة الأولى عام 1918 في بطرسبورغ تحت عنوان: هل يحتفظ البلاشفة بالسّلطة؟ بأنّ المرتعبين من التغيير عادةً ما يسلّمون بالثورات، نعم، ولكن شرط ألا تسفر عن وضع معقّد للغاية. ولكن هل يمكن أن توجد ثورات كهذه؟ الثورات، وإن بدأت في وضع قليل التعقيد في الظاهر، تسفر على الدوام، خلال تطورها، عن وضع معقّد للغاية، ذلك لأنّ الثورات الحقيقيّة، العميقة، الشعبيّة، على حدّ تعبير كارل ماركس، هي في النهاية عملية معقّدة ومؤلمة إلى أقصى حدّ.

وقد لا تكون هذه الحياة الجديدة الناتجة عن الثورات أفضل من سابقتها القديمة لأنّ الصيرورة التاريخيّة تفيد بصعبة التنبؤ بنتائج الثورات العارمة. يقول المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه صديق فيدل كاسترو وأرنستو تشي جيفارا: (إحدى مفارقات الثورات أنّها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحول لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كثيرة إلى كوابيس). وعندي أن الثورات تسير بالمجتمع خطوتين إلى الوراء وخطوة إلى الأمام، لأنّها بالمجمل كفاح جامح ضارٍ. لذلك لا يألف هذه الثورات الرجل المعلّب الخارج لتوّه من معطف قصة (الرجل المعلّب) التي تجدها منشورة في المجلد الثاني من المختارات القصصيّة في أربعة كتب لأنطون تشيخوف، التي ترجمها إلى العربية في موسكو أبو بكر يوسف في ثمانينيات القرن العشرين. بيليكوف، بطل قصة تشيخوف، نموذج من البشر يخشى كل جديد وكل مبادرة، ومع ذلك يفرض سطوته على مجتمعه، وهو شخصية أصيلة تميل في مجمل تصاريف الحياة إلى وضع نفسها فيما يشبه العلبة المغلقة التي يمكن أن تعزلها وتحميها من المؤثرات الخارجية. كان الواقع المعيش يثير أعصاب السيد بيليكوف ويُخيفه، ويرميه في دوامة قلق دائم، وربما لكي يبرّر وجله هذا، وتقزّزه من الحاضر، كان يمدح الماضي دائماً. وكان السيد بيليكوف يسعى إلى إخفاء أفكاره في علبة. فلم تكن واضحة له سوى الأوامر الحكومية التي تأتي في نشرات دورية أو في الصحف الرسمية التي تمنع شيئاً ما. كان ذلك بالنسبة له واضحاً ومحدداً، ممنوع وانتهينا.

كنتُ أعرف مهندساً غنياً في بلدتي الصغيرة في الشمال الغربي من سوريّة يشبه إلى حدّ ما صديقنا بيليكوف، ولكنّه كان ثورياً، بل قل شيوعيّاً ولا تخف، أما اليوم فهو يرتجف خوفاً، ويتململ ضغينة من هؤلاء العوامّ الغوغاء، أصحاب الصّنادل المهترئة الذين هبوّا لاقتحام أبواب السماء، كأهل (كومونة باريس) في ربيع عام 1871 التي قال فيها ماركس ما قال. ومهندسنا_ وهو مثقف زار عدة بلدان أجنبية_ يقول: لو أنّ هؤلاء الثوار من أهل الريف والأحياء الفقيرة في المدن كانوا أكثر تحضّراً، أكثر تنظيماً، أكثر دراية بما يفعلون، لو كانوا أصحاب برامج واضحة في ثوراتهم، لو أنّها كانت أقل همجيّة، مع أني أوافق معهم على حتمية الثورات الاجتماعيّة بوجه عام، ولكن عندنا، هذه ليست ثورات، بل هاوية، ومن العار أن أُشارك فيها، لا أستطيع ذلك.

وها هو ذا يهرب ويترك الرعاع يقودون الثورات.

قد يكون صاحبنا المهندس مستعداً لقبول الثورات الاجتماعيّة لهؤلاء الرعاع، الغوغاء، الدهماء، الحشد، العامّة، والمشاركة فيها، لو أن التاريخ يوصل إليها بهدوء ونعومة، وملاسة، ورقّة، مثلما يصل قطار سريع حديث إلى المحطة. وإذا رقيب المحطة يفتح باب العربة بكلّ رزانة ورصانة، ويهتف قائلاً: محطة الثورات الاجتماعيّة، فلينزل الجميع!

​لقد شهد هذا الرجل ثورات عديدة، وهو يعرف أيّة عاصفة من المشاعر المتأجّجة ترافق على الدوام مثل هذه الثورات الشعبيّة الغاضبة حتى السلميّة منها. ويقيناً أنّه يدرك كم من ملايين المرات ينبغي أن تكون هذه الثورات أشدّ هيجاناً حين يستنهض الذّل والاستبداد والعسف، السوادَ الأعظم من الشعب المحكوم بأجهزة أمنية متوحشة. كل هذا يفهمه صاحبنا نظرياً، ولكنه لا يقرّ به إلا من رؤوس شفتيه، فقط بسبب الوضع المعقّد للغاية. ويتمنى من كل قلبه أن تكون الثورات ألين في خطوطها وزواياها الحادة، ويسأل من جديد: ألا يذهب الوطن إلى وضع معقّد للغاية؟ والجواب: إنّ الخلق التي ثارت ضدّ الطغيان العسكريّ لجهاز الدولة يُتابعون تحطيم سلطة العسكر التي سلبتهم حريتهم وكرامتهم ووضعتهم تحت سلطة نظام عسكريّ فجّ. الأمل الوحيد لهم هو انتصار الثورات وتشكيل حكومات مدنية وإغلاق الأبواب على العسكر في ثكناتهم، لأن عمل العسكر الأساسي حماية حدود البلاد وليس الجلوس في القصر الجمهوري.

العدد 1104 - 24/4/2024