التراث الممزّق

يونس صالح:

هناك الكثير من الآراء التي تقول بأن الصراع العربي الإسرائيلي، الذي كان العديد من التقدميين يأملون أن يكون عاملاً مساعداً في الثورة، كان عاملاً محافظاً، لأنه كان مبارزة بين دول، وكانت الحروب التي قامت عاملاً يمتص كل الإحباطات.. وفي الثورة الفلسطينية نفسها لم تعد الكلمة النهائية لجبهات التحرير الشعبية، بل لحركة فتح التي تؤمن بالوطنية الفلسطينية وتطالب بالدولة، وهو مطلب تباركه الأنظمة العربية، ولهذا كانت الدعوة إلى تحويل الحركة من مؤسسة إلى حكومة فلسطينية، ثم لحركة حماس ثانية التي تأسّست على أرضية حركة الإخوان المسلمين، وتسعى بكلّ جهدها لتحلّ محل حركة فتح في قيادة الثورة الفلسطينية، التي أعطتها طابعاً إسلامياً يتخطى حدود فلسطين.

وتقول هذه الآراء إن الدليل على سيادة الاتجاه المحافظ هو الاتجاه إلى سياسة الانفتاح في معظم الدول العربية، واتجاه الناس للمطالبة بتحسين المعيشة والإسكان، وهجرتهم بحثاً عن الثروة، حتى صارت المجتمعات العربية مجتمعات استهلاكية يسودها السماسرة والوسطاء.

إن الذين يعلنون عن تمسكهم بالتراث كما تقول هذه الآراء لا يدركون أن عالمهم قد تغلغلت فيه الحضارة الغربية.. فقد ساعد الثراء الخرافي (خصوصاً في بلدان الخليج) على خروج الناس من مجتمعاتهم. ففي لندن وباريس اليوم أكثر أشكال الصحافة العربية تحرراً كما تقول هذه الآراء، وإليها يمضي الباحثون عن الحرية الثقافية، بل إن تهريب الثروات إلى الغرب ليس إلا تعبيراً عن موجة الهروب الثقافية، خاصة أن الاتجاهات المتطرفة في بعض الدول الإسلامية لم تضع أي أساس حقيقي للثقافة الوطنية، مثلما فعلت اليابان على سبيل المثال.

تؤكد هذه الآراء أن العالم العربي يعاني الآن من ازدواجية العيش في عالمين في آن واحد.. إن هذه الازدواجية أدت إلى مصادمة بين الاتجاهات المتطرفة والسلطات القائمة، غير أن الأساس الحقيقي لبعث التطرف كان مقاومة لاحتكار السلطة في الدولة، واحتكار مصادر الثروة من قبل القائمين عليها. لم يكن الصراع على المقدسات بقدر ما كان حول السلطة، ومن يتحكم في الموارد. وتبقى مشكلة التأرجح بين التمسك بالتراث ونبذه باقيةً، كما تقول هذه الآراء.

والواقع أن الليبراليين في البلدان العربية انتهى بهم الأمر إلى استيراد أشكال وادعاءات لا تتناسب مع مستوى التطور في مجتمعاتها، كما أن المتطرفين الأصوليين يتكلمون عن الأسلاف دون أن يروا السبيل إلى اتفاق مع أساليب الحياة التي خبرتها الجماهير، ويرفضون التغيير الذي حدث في العالم.. كلا الطرفين يريد فرض عالم متصوّر سلفاً، وأن يحرم الناس من الاختيار، كلاهما يتخلّى عن الواقع لصالح الغرب أو الأسلاف دون أن يتعلم من الاثنين.

لم يحلّ التطرّف مشكلة العلاقة مع الأفكار الجديدة والتكنولوجيا، وأنماط التنمية وغيرها، وهكذا فما زالت المشكلة قائمة بين التطرف والحضارة الغربية. لقد تراوحت مواقف العرب بين الرغبة في تحقيق نجاح الغرب وقوّته، والرغبة في الانعزال داخل عالمهم القديم، لكن دخولهم العالم قد أثبت أنه صعب مثل الخروج منه، فليس العالم العربي عالماً متكاملاً في حد ذاته، وليس في إمكان العرب اليوم أن يصلوا إلى استعادة أمجاد الأسلاف، ولعل هذا هو الذي يسبّب لهم الكثير من التعاسة كما تقول هذه الآراء، لأنهم غير قادرين حتى على الاقتراب من هذه الأمجاد.

العدد 1105 - 01/5/2024