مفارقة أم كذبة؟

د. أحمد ديركي:

عندما يكون هناك علامة استفهام في مكان ما، فمن البديهي أن يعني هذا أن هناك سؤالاً مطروحاً. السؤال قد يحمل معانيَ متعددة، فهناك أسئلة معروفة الإجابة مسبقاً، تكون عبارة عن أسئلة توكيدية، وهناك أسئلة غير معروفة الإجابة المطلوب من قبل طارحها أن يكون باحثاً عن إجابة، وهناك أسئلة لا إجابة لها، وهناك أسئلة تفترض الصمت!

أجل، هناك العديد من أنماط الأسئلة، فليس السؤال كلمة سهلة التحديد، لكن من المتعارف عليه، بعامة، أن من يطرح السؤال يكون في حالة بحث عن إجابة. فالسؤال هنا عن شيء غير معلوم بانتظار من يعلم أن يجيب. ولا يعني هذا أن السؤال الباحث عن إجابة يمكن أن تكون إجابته فورية، بل قد تأخذ الإجابة عليه سنوات وسنوات. وعند الوصول بعد سنوات وسنوات قد تكون الإجابة غير دقيقة، ما يستلزم معاودة البحث عن استكمال الإجابة. كما أن هناك أسئلة قد تستغرق الإجابة عليها مجرد ثوانٍ معدودة.

منذ زمن ذكرت كلمة (مفارقة) خلال نقاش جرى مع بعض الأشخاص، ولم أعلم ماذا تعني. وقد علمت أن مفارقة زيون الإيلي احتاجت إلى ما يزيد عن 2000 سنة للإجابة عليها. لذا تجاهلها البعض والبعض لم يتجاهلها، لكن الإجابة استغرقت كل هذه السنوات للإجابة. فقد طرح زينون الإيلي ثلاث مفارقات شغلت الفلسفة اليونانية، وصولاً إلى اليوم. لن ندخل في تفاصيل المفارقات الثلاث، لكن واحدة منها قصة السباق بين السلحفاة وآخيل، وهو بطل السرعة في الأساطير اليونانية، وقد يكون شخصية حقيقية. وهي قصة ما زالت قائمة حتى اليوم، ويمكن مشاهدتها في الرسوم المتحركة وغيرها من الأفلام. فما قصة هذا السباق؟

اعتقد آخيل أن ما من أحد يسبقه، ومن المتعارف عليه أن السلحفاة بطيئة في سيرها، لذا يستحيل عليها أن تسبق آخيل. فكان التحدي بينهما. سمح آخيل للسلحفاة أن تنطلق قبله بمسافة محددة، ولنقل إنها خطوة أو متران ومن بعدها ينطلق آخيل. من البديهي أن يسبقها آخيل لأنه أسرع منها بكثير. هنا أتى زينون وطرح مفارقة تنص على استحالة أن يسبق آخيل السلحفاة وإن كان أسرع منها. كيف؟

كي يقطع مسافة المتر أو الخطوة، التي سبقته بها السلحفاة، عليه بداية أن يقطع نصف، وكي يقطع نصف المتر أو الخطوة عليه أن يقطع نصف نصف المتر، أو نصف نصف الخطوة، وكي يقطع نصف نصف المتر، أو نصف نصف الخطوة، عليه أن يقطع نصف نصف نصف المتر، وهكذا دواليك. بعبارة أخرى بين الرقم 1 والرقم 2 هناك عدد لا متناهي من الأرقام الكسرية، لذا على آخيل أن يقطع هذا العدد اللامتناهي من الكسور ليصل من الرقم واحد إلى الرقم 2. فطرح السؤال التالي: كيف يمكن الانتقال من اللامتناهي (الأعداد الكسرية بين رقمين) ليصل إلى المتناهي، أي الرقم الصحيح؟ حيث من الاستحالة الانتقال من المتناهي إلى المتناهي، أو من اللا محدود إلى المحدود، لأنه أمر غير منطقي. بينما في الواقع يمكن لآخيل أن يسبق السلحفاة. وليس فقط آخيل يمكنه فعل هذا، بل كل من هو أسرع منها يمكنه أن يسبقها. مفارقة استغرق العقل البشري مدة تقارب ألفي سنة حتى استطاع أن يجد لها حلاً منطقياً عبر الرياضيات الحديثة والمعقدة جداً.

أي أن المفارقة هي المسألة التي تضع العقل البشري أمام تحدٍّ.

أما الكذبة فمسألتها سهلة. وببسيط العبارة تعني عدم قول الحقيقة. وإن كان هناك محاولات متعددة (لتجميل) الكذبة، مثل وجود كذبة بيضاء، وكذبة… لكن كلها لا يمكنها تخطّي تعريفها، وهو عدم قول الحقيقة. فمثلاً إن كنت أسكن في حي البرامكة وسألني سائل أين تسكن؟ فإن أجبت: أسكن في المزة فيلات، فأنا أكذب، بغض النظر عن مسببات الإجابة الكاذبة. وإن أجبت بـ: أسكن في البرامكة، فأنا أقول الحقيقة.

فالكذب يعني عدم قول الحقيقة.

حالياً وما يجري من وحشية من قبل الكيان الصهيوني ليس بمفارقة بل حقيقة واقعة لا مجال لنكرانها، لكن ما تفعله الأنظمة العربية هو محاولة تحويل تمويه الكذب وإدخاله ضمن مفارقة. وللتوضيح. طوال فترة هجمية الكيان الصهيوني ووحشيته على غزة والشعب الفلسطيني، سمحت المملكة الأردنية الهاشمية، ما أجمل تحويل أسماء البلاد العربية إلى أسماء حكامها، لشعبها بأن يتظاهر ضد هذه الهمجية، رغم كل مواقف الأردن الرسمية الخيانية بحق القضية الفلسطينية. وما هذا إلا تمويه للكذب، وليس مفارقة. لكن عندما طالت الهمجية الصهيونية السفارة الإيرانية في دمشق، أعلنت إيران أنها سوف ترد، وأعلمت سفارات الدول الغربية بالرد، ومن ثم ردّت على قصف سفارتها بقصف لمواقع محددة في فلسطين المحتلة. ولن ندخل هنا في تفاصيل هذه العملية الدبلوماسية. لكن لتصل الصواريخ الإيرانية إلى فلسطين عليها أن تمر بأجواء دول عربية، ومنها الأردن. فالمملكة الأردنية الهاشمية، التي سمحت لشعبها أن يتظاهر ضد همجية الكيان الصهيوني ووحشيته، عملت على إسقاط الصواريخ والمسيّرات الإيرانية الذاهبة باتجاه ضرب الكيان الصهيوني! ما يظهر مدى كذب النظام الأردني، وليس مفارقة. وإن كان هذا يعني شيئاً فهو يعني أن هذه الأنظمة مسموح لها التعاطي بالشؤون الداخلية فقط لا غير.

والكذبة الأخرى تتعلق بالمملكة العربية السعودية، مجدداً ما أجمل أن يتحول اسم البلد إلى اسم من يحكمها. تقول المملكة العربية السعودية إنها ليست مطبّعة مع الكيان الصهيوني، لكن مع تفاقم الأوضاع الأمنية خلال فترة التحضير للضربة الإيرانية للكيان الصهيوني أصدرت المملكة العربية السعودية بياناً تحذّر فيه رعاياها في الكيان الصهيوني من خطورة الوضع! كيف لهذه الرعية أن تذهب إلى الكيان الصهيوني ما لم يكن هناك علاقات (ودية) ودبلوماسية بين البلدين؟ أليس هذا بكذب؟ بينما لم تكذب الإمارات العربية المتحدة لأنها أعلنت التطبيع فحذرت رعاياها، وكذلك فعلت البحرين.

بعد هذه الأحداث المتتابعة واستمرار همجية الكيان الصهيوني ووحشيته، لم يعد هناك من مجال للحديث أو حتى التباس معنى بين مفارقة وكذبة! والشواهد متعدّدة للتفريق بينهما، ومنها…

فالإجابة على السؤال المطروح في العنوان هو إن كان الموضوع يتعلق بهمجية الكيان الصهيوني ووحشيته وموقف الأنظمة العربية منه، فموقفهم كذب لا لبس فيه. وإن كان الموضوع حول مفارقة زينون الإيلي فقد توصلت الرياضيات الحديثة إلى حلّ المفارقة. لكن ما زال هناك العديد من المفارقات المطروحة على الفكر البشري.

العدد 1105 - 01/5/2024