الأعمال أعلى صوتاً من الأقوال

عبد الرزاق دحنون:

لم تكن الكاتبة الكندية نانسي هيوستن، التي يعرفها القارئ العربي من خلال كتابها المُترجم إلى العربية (أساتذة اليأس) عضوةً في أيّ جماعة أو تجمّع. كانت تقف وحيدةً في فناء المدرسة، خلال سنوات طفولتها، لأنّها ابنة معلّم كان يتنقّل باستمرار عبر الأراضي الكندية. وحتى عندما جاءت إلى باريس في سبعينيات القرن العشرين، وصارت طالبة لرولان بارت، وتعرفت على الأوساط النسوية – ونشرت في مجلة (سورسيير) مع مارغريت دورا وجوليا كريستيفا- لم تفقد مطلقاً تلك المسافة النقدية من الجميع. عاشت نانسي هيوستن في بلدها الثاني بالتبنّي، فرنسا، رفقة زوجها عالم السيميولوجيا الناقد البلغاري الكبير تزفيتان تودوروف لمدة 40 عاماً تقريباً، وظلّت من المفكرين الذين لا يمكن التنبؤ بمواقفهم، والمثقفين الذين لا يقفون أبداً على الحياد.

في حوار مع الكاتبة الكندية نانسي هيوستن، بمناسبة صدور ترجمة كتابها (شفاه الحجر) إلى الإسبانية، الذي تقارن فيه سنوات تكوينها بفترة حكم الدكتاتور الكمبودي (بول بوت) زعيم الخمير الحمر، حينما تواطأ المثقفون الأوربيون بصمتهم مع الإبادة الجماعية للشعب الكمبودي.

سؤال:

-هل تعتقدين أننا جميعاً مستبدّون محتملون؟

جواب:

-لا أعرف نساءً مستبدّات، وهذا يُلغي في الواقع نصف سكان العالم. إذا توفّرت الظروف الصحيحة، بإمكان أيّ شخص أن يصبح ديكتاتوراً.

أُحاول في هذا المقال أن أستقصي جدلاً واسعاً ومتشعباً عن دور منظومة السجون وانعكاسات هذا الدور على المجتمعات الإنسانية في تشكيل السمات السيكولوجية والسلوكية للفرد المسجون الذي قضى في سجون الدكتاتور على حدّ تعبير نانسي هيوستن؛ فترة قد تطول أو تقصر، يخرج بعدها إلى الحياة العامة -هذا إن خرج سليماً- بسلوكيات تختلف اختلافاً بيّناً عمَّا كان يسلكه قبل أن يُسجن. ومن ثمَّ أعمل على اسْتقصاء مساهمة أدب السجون المكتوب في كشف السمات العامّة التي يخرج بها المسجون من سجنه بعد إطلاق سراحه، بمعنى محاولة الإجابة عن السؤال الخطير: من يحدد سلوك البشر في النهاية هل هو الطبع أم التطبّع؟ وهل أنتَ/أنتِ إلى الشر أميل، فيصنع منكَ/منكِ السجن فرداً خيّراً صالحاً؟ لأن عبارة (السجن إصلاح وتهذيب) التي تُروّجها الدول والحكومات المستبدة عن سجونها هي في الغالب الأعم لا تكون كذلك، وحسبك أن تعود إلى أدب السجون المكتوب -وهو كثير- أو المصوّر في أفلام ومسلسلات وبرامج وثائقية، لتكتشف بنفسك ذلك البون الشاسع بين ما تروّجه الأنظمة القمعية عن سجونها ذات العيش الرغيد، والواقع المعيش فعلاً.

وبكلِّ تأكيد كلام الكاتبة الكندية نانسي هيوستن أعلاه يُضيء لنا جانباً مهماً من عتمة سجون الأنظمة المستبدة وما يحصل فيها، وحقيقة الأمر، يُعيدنا كلامها إلى جذور هذه المشكلة التي استعصت على الحل.

طبعاً، يصعب العثور على دليل يُبيِّن اختلافات تشريح دماغ المسجون عن دماغ الفرد العادي، أو لنقل عن دماغ الفرد الحر الذي لم يُسجن في حياته، ولا حتى مرّة واحدة. وعلى الرغم من اكتشاف علماء الأعصاب عدداً من الفروق في بنية الدماغ ووظائفه بين مختلف الأفراد، أكانوا ذكوراً أم إناثاً، أحراراً أو سُجناء، فلا أحد يستطيع في الوقت الراهن أن يقول ما إذا كان لهذه الفروق أيّ تأثير في دماغ المسجون، وعلى وجه الخصوص ذلك الذي قضى سنوات طويلة من عمره مسجوناً سياسياً، بمعنى سُجن لأنه عبَّر عن رأيه في دولة يحكمها أحد الطغاة.

في لقاء متلفز مشهور مع المناضلة الأمريكية السوداء (أنجيلا ديفيس) من الحزب الشيوعي الأمريكي، وهي ذات باع طويل في مسألة الدور الاجتماعي  للسجون وانعكاسات هذا الدور على الأفراد الصالحين منهم والطالحين. تقول في جوابها عن سؤال حول دور السجون في المجتمعات الحديثة: (أؤمن أنه من الممكن العيش في مجتمع بلا سجون، وقد تكون الفكرة ملائمة للمستقبل في مجتمع متبدل حيث القوة الدافعة فيه هي حاجات الناس وليست الأرباح، في الوقت نفسه فكرة إلغاء السجون الآن مستحيلة لأن أيديولوجية تدعيم السجون مغروسة بعمق في جذور عالمنا المعاصر، هناك عدد كبير من الناس خلف القضبان. استخدمت السجون كاستراتيجية لمحاربة الانحراف الناتج عن العنصرية، الفقر، البطالة، الأمية، هذه المشاكل لم تعالج حتى يُسجن من ارتكب جريمة بسببها، إنها مسألة وقت حتى يدرك الناس أن السجون ليست حلاً).

وهي تقترح في بث مباشر على الفيسبوك يوم الأحد 15 حزيران (يونيو) 2020 نقلته عنها جريدة القبس الكويتية في موقعها الإلكتروني: (إن الطريقة الوحيدة للتحرر من العنصرية والتمييز الجنسي والسجون والشرطة هي إلغاء هذه المؤسسة حتى يمكن إعادة النظر في وظائفها وبناء شيء جديد. وإذا كانت الإصلاحات قد فشلت في إحداث تغيير للشرطة أو السجون أو المعتقلات، فهل من المنطقي الدعوة ببساطة إلى مزيد من الإصلاحات؟ وإذا نظرنا إلى تاريخ السجون وتاريخ الشرطة، نجد أن دعوات الإصلاح تعددت في تاريخ هاتين المؤسستين ونُفّذ عدد من تلك الإصلاحات. ومع ذلك، فإن السجون والشرطة ازدادا عنصرية وصارا أكثر قمعاً وعنفاً. نحن لا ننظر إلى السجون والشرطة بصفتهما مؤسستين منفصلتين. يجب أن يبقى هذا في صميم جهودنا لبناء المجتمع الإنساني. نحن ننظر إلى الإلغاء من منظور ثوري يقتضي أن نفهم ونقاوم، ليس المؤسسة وحدها، بل كل الظروف والقوى التي تمكّن من استمرار وجودها. نحن لا نُضيف ببساطة كلمة (إنساني) إلى اسم مؤسسة منحرفة، عنصرية جداً بحكم بنيتها، وواقعة تحت تأثير عميق لأيديولوجيات جنسية أبوية، فنقول إننا نعلم أن الشرطة عنصرية، ونناضل من أجل شرطة أكثر إنسانية! ونقول إننا نعلم أن الحبس متحيز طبقياً بطبيعته، لذلك فلنكافح من أجل تحيز طبقي أكثر إنسانية، من أجل شكل أكثر إنسانية للعنف! فهذا بالضبط ما طُرح في شأن عملية الإعدام، من أجل شكل أكثر إنسانية لقتل الناس).

أقول تعليقاً على كلام أنجيلا ديفيس: يصعب البحث في الفروق السيكولوجية -إن وجدت- بين المسجون والفرد الحر، نظراً إلى امتلاك الأفراد منظورهم وأفكارهم الخاصة عن دور السجون في حماية المجتمع، بغض النظر عمّا إذا كانوا يمحّصونها علمياً أم لا. وهذا يختلف عن موضوعات البحث الأخرى في العلوم البحتة، حيث لا يوجد لدى الأفراد قناعات أو وجهات نظر مسبقة راسخة يمكن أن تؤثر مسبقاً في عملية البحث. ويُطلق على الآراء الشائعة أو الراسخة، غير المؤسسة بالضرورة على الدليل، مصطلح أفكار مُنمَّطة، لأنها قد تُعتنق من قبل العلماء كما من قبل البقية، وهي تجعل البحث في هذه الفروق أكثر صعوبة من البحث في المجالات غير المعرَّضة لأفكار منمَّطة. أدب السجون المكتوب عربياً تفاوت في قدرته على التأثير في الوعي العامّ والحياة السياسية، ولكنه سعى بكلّ تأكيد لشرح ظاهرة غاية في الأهمية وهي طرق التعذيب النفسي والجسدي التي ابتكرتها وطوَّرتها الأنظمة القمعيَّة في تعاملها مع السجين السياسي.

وقد لاحظت أمراً غريباً وغاية في الأهمية استخلصته من أدب السجون المكتوب، فعندما يحترم السَّجان سجينه، فإن المواطن في تلك الدولة يكون محترماً في الشارع وفي بيته وفي عمله وفق الدستور والقانون المرعيين. وعندما يكون السجان وحشاً في تعامله مع سجينه، فإن المواطن في هذه الدولة يُجرَّد كلياً من جميع حقوقه المنصوص عليها في الدستور والقوانين، ويصبح عيشه أشبه بعيش الوحش في الغابة. وهذا يؤكد لنا القاعدة الفكرية الخطيرة التي ترجع إلى كونفوشيوس، وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية، وتقول: (إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً، عدلوا واستقاموا، وإن جار وسرق، جاروا وسرقوا).

العدد 1104 - 24/4/2024