تأبَّط نعلاً

عبد الرزاق دحنون:

قيل إنّ المأمون بن هارون الرشيد، سابع خلفاء الدولة العباسيّة، كان يجلس للمظالم يوم الثلاثاء من كلّ أسبوع، فجاء رجل قد شمّر ثوبه، وتأبّط نعله، فوقف على طرف البساط وقال: السّلام عليكم، فردَّ المأمون السّلام، فقال الرجل: أخبِرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه، جلسته بإجماع الأمة أم بالغلبة والقهر؟ قال المأمون: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمر المسلمين من عقد لي ولأخي -يقصد الأمين- فلما صار الأمر إليَّ علمت أني محتاج إلى إجماع كلمة المسلمين في المشرق والمغرب على الرضا بي، ورأيت أني متى خلّيت الأمر اضطرب حبل الخلق، ومرج أمرهم، وتنازعوا، وانقطعت السبل، فقمت صوناً للخلق إلى أن يُجمعوا على رجل يرضون به فأسلّم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر. فقال صاحب النعل: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وذهب.

رجل من عامة الخلق يقتحم مجلس من دانت له الدنيا من مشرق الأرض لمغربها، يقف على بساط الخليفة، متأبّطاً نعله، يسأله من أعطاه الحقّ في مجلسه؟ هذا لعمري الخط الفاصل بين الحياة والموت، والذي ينبغي ألا يتجاوزه أحد أو حتى الاقتراب منه. وقد نُقل عن أكثم بن صيفي التميمي قول؛ وقد ذهب مثلاً: (مقتل الرّجل بين فكّيه).

في هذه النادرة يظهر أن العلاقة لم تكن دوماً مشدودة شدّاً حادّاً بين الحاكم والمحكوم، فقد كان هناك مساحات ممتدة متنوعة بينهما تثير الانتباه والدهشة. بل لعلها تتجاوز وتخترق بصورة مباغتة الخطوط الحمراء للسلطة السياسيّة الحاكمة دون أن يترتب على ذلك أي نتائج مأساوية، وإنما يتحول الموقف برمته إلى نادرة طريفة تنسج خطاباً مراوغاً يضمر السخرية العميقة من صاحب السلطان على حد تعبير الدكتورة هالة أحمد فؤاد.

وهنا لا بد من استنطاق هذه العلاقة الشائكة بين الرجلين. صاحب النعل ترك عمله، شمَر ثوبه، تأبّط نعله، وجاء يسعى، فرأى مجلس الحاكم، وسأل. أيدرك هذا الرجل ما يفعل؟ أم هو أحمق بالفطرة، أم يتغافل ويخلط الهزل بالجدّ؟ ألا يدرك ما يمكن أن يفعله الحاكم لو غضب؟ وغضب الحاكم لا تحمد عُقباه. أمن حقّه كمحكوم أن يستنطق الحاكم ويسأله كيف يدير شؤون الرعيّة؟ وماهي الأشياء الملحّة التي حدته -حدا الشّيء تَعمّده وتوخّاه- لمواجهة الحاكم بجرأة، بل قول تهوّر، ودخول حضرته هكذا دون أحم ولا دستور، وسأل؟

وكما ترى هي في مجملها أشياء تكشف عن احتياج الرعية الملحّ إلى الراعي، ولا تهدد جوهر الحاكم، بل تدعمه، وتؤكده، وتكرّس له. انظر إلى صاحب النعل حين سمع جواب المأمون كيف سلّم وانصرف. هل سكنت نفسه واطمأنت من قلق على مصير الأمة؟  أكان جواب المأمون شافياً، كافياً، سدّ الذائع من كلّ وجه؟ وقد نُقل عن المأمون: ما أعياني جواب أحد مثل ما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة، قدَّمه أهلها فشكا عاملهم، فقلت: كذبت، بل هو رجل عادل! فقال: صدق أمير المؤمنين وكذبت أنا، قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد خذه واستعمله على بلد آخر يشملهم من عدله وإنصافه مثل الذي شملنا، فقلت: قم في غير حفظ الله، عزلته عنكم! وفي هذا السياق: ألحَّ الذّباب يوماً على أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء الدولة العباسيّة وباني بغداد، في مجلسه حتى أضجره. فقال لحاجبه: انظر من في الباب من العلماء. فقال: مُقاتل بن سليمان. فأُدخل مُقاتل على المنصور، فسأله: لماذا خلق الله الذباب؟ وعاين مُقاتل تبرّم المنصور وضجره، فأجابه: لكي يُذلّ به الجبابرة.

لا يعنينا في هذا السياق مدى صحّة هذه الروايات، وهل هي حقيقة أم من عمل الخيال؟  لأننا نهتم بتحليل تلك العلاقة الملتبسة بين الحاكم والمحكوم، ولعل ما ينسج ملامح ذلك الالتباس هو إمكانية التشارك في دوافع الاقتراب من مدار الحاكم، والتورط في فضاءاته، مما يجعل الحضور داخل هذه الفضاءات مجازفة خطرة قد يترتب عليها في كثير من الأحيان نتائج وخيمة تصل إلى حدّ التصفية الفعلية مادياً ومعنوياً.

وصدر هذا الكلام شبيه بشيء لا بأس بروايته في هذا الموضع، فقد خطب أبو جعفر المنصور يوماً فقال: مذ ولّيتُ عليكم رفع الله عنكم الطاعون. فقام رجل في المجلس وقال: لأن الله أكرم من أن يجمع علينا المنصور والطاعون. تقدّم هذه المشاهدُ العامّةَ أو الخلق أو الرعاع أو الدهماء، إن شئت ذلك، بوصفها حشداً قادراً على الفعل، وهذا أحد تجلّيات المقاومة بالحيلة في مواجهة عسف الحاكم وفرديته كما أكّده الباحث (جيمس سكوت) أحد أهم علماء السياسة والأنثروبولوجيا في عصرنا، في كتابه المهم: (المقاومة بالحيلة – كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم).

العدد 1104 - 24/4/2024