في رحيل الشاعر بركات لطيف

عبد الرزاق دحنون:

في مساء أحد الأيام الماطرة من شتاء عام 1984، سألتني زميلتي عن الشاعر السوريّ بركات لطيف، وكنتُ ما أزال متدرباً من المعهد الطبيّ قسم تخدير وإنعاش، نعمل مع طاقم طبيّ كبير في غرفة العمليات في مشفى الكنديّ في مدينة حلب، هي طبيبة متدرّبة في قسم الجراحة وأنا مساعد تخدير في غرفة العمليات، نعاون على قدر معرفتنا، في عملية جراحيّة لاستخراج حصى أبت أن تنزل بالطرق العاديّة من كلية مريضة أرمنيّة في الخمسين من عمرها، وهي عمليّة جراحيّة كبيرة ودقيقة ومتعبة وتتطلب جهداً وصبراً وتستغرق وقتاً مديداً. كان ديوان الشاعر بركات لطيف (أناشيد سائق القطار) من ضمن من دخل غرفة العمليات، أقرأ قصائده للطاقم الطبي الذي يقوم بالعمل الجراحي. وكان شعر بركات لطيف يكسر تلك الرتابة والجديّة المفرطة في غرفة العمليات، وزيادةً في الإمتاع والمؤانسة كان يُرافقنا صوت كوكب الشرق من مسجّل صغير في زاوية غرفة العمليات الفسيحة تصدح برباعيات الخيّام.

قرأتُ بضع قصائد من الديوان، فقالت الطبيبة: هل أنتَ على يقين بأنّ من كتب هذه القصائد سائق قطار؟ قلتُ: على حدّ علمي، نعم، هو سائق قطار درعا-دمشق وهذه أناشيده. ولكن ما سبب دهشتك؟ قالت: قصائد الديوان تشبه كلام الرسائل الحزينة التي يكتبها العمال في الغربة إلى أهلهم وحبيباتهم، يبوحون فيها بمكنونات صدورهم العامرة بالشوق والحنين إلى تلك الحياة البسيطة الأليفة في ديارهم. إنه أحد هؤلاء الذين يمكنك الوثوق بما يكتبون عن مدن هذا العالم الظالم الجشع الذي يسعى لسحق البشر على سكك الحديد التي تسير عليها قطارات العالم في كل اتجاه. تسمع في قصائده صافرة قطاره، وتشمّ رائحة الديزل والزيت المحروق في المحرك الجبار الذي يجرّ القطار السائر إلى الأمام، وتعتريك الرغبة في الصعود على متنه، نعم، تتمنى أن تُسافر معه على صوت ضجيج تلك العجلات المنطلقة بحريّة وثبات على القضيبين الحديديّن المتوازييّن، وأنت تُصغي إلى هسهسة الحصى التي تشدّ عضد بعضها تحت ثقل القطار المُسافر.

أعجبني كلام الطبيّبة في تقييم قصائد بركات لطيف، فسألتها: هل أنت شيوعيّة؟ فقالت: ما يهمّك من أمري أكنتُ شيوعيّة أو كونفشيوسيّة؟ حفظت ما قالته عن ظهر قلب. وبعد حين صدر الديوان الثاني (أوراق الليمون) وقد فرِحنا بقصائده فرح الأطفال بالعيد. في الصفحة الأولى من الديوان يفتح لنا الشاعر بركات لطيف باب غرفة الشاعر ويكتب:

الشعر ثقيل الظلّ

عندما نكتبه بين الآلات

وفي البيت تُحطّم أوزانَه

طلباتُ الأطفال

والكلمات ترفض احتواء الأحزان

فهل يكفي يومٌ من عام

لنفرغ فيه قرناً من البكاء؟!

المطّلعون على المشهد الشعريّ السوريّ في ثمانينيات القرن العشرين يعلمون المساحة التي احتلها الشاعر بركات لطيف، المولود عام 1935، بعد صدور مجموعته الشعرية الأول عن وزارة الثقافة السوريّة عام 1979. وإذا كان يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يعتبر ديوان (أناشيد سائق القطار) هديّة ثمينة تناولتها الأيدي تلك الأيام بشغف ودهشة ومحبة، لما تضمّنه من قصائد مذهلة في بساطتها وعمقها ورقة حواشيها ومنخول عباراتها، فكان خير جليس. ورحنا نسأل، ونحن فتية ما نزال: هل حقاً الشاعر بركات لطيف سائق قطار؟ ومن ثمّ، فجأةً، ترك بركات لطيف نشر ما يكتب من شعر وراح يقود قطار درعا دمشق دون أناشيد يُرتّلها على ايقاع صوت عجلات قطاره السائر في الفجر. أصابنا الحزن لصمته، وما أثقل أن يصمت الشاعر، وما أصعب ذلك؟ هل هو صمت الحزن الذي تحدّثت عنه صديقتي الكونفشيوسيّة، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ رحم الله الشاعر طرفة بن العبد القائل:

سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً

وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوّدِ

إضافة إلى الديوانين الصادرين عن وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ في سوريّة، تجد لبركات لطيف مجموعة قصائد جميلة في مجلة (دراسات اشتراكيّة)، وتجد له أيضاً قصائد في مجلة (الطريق) اللبنانيّة، وكان في تحريرها رفيقنا الأسطوري محمد دكروب، و القصائد تحت عنوان (رسائل حزينة إلى الأول من أيار).

نعم، رحل صاحب هذه القصائد في مساء شتاء حزين يوم الثلاثاء 16/1/2024 بعد عمر مديد، حافل بالعطاء والعمل المُنتج والمثمر، كأشجار سورية العريقة التي ماتت واقفة، فبكتها الأمطار حزناً على ما آلت إليه، وها أنذا أيضاً ما عدتُ أرى حروف الكلمات على شاشة حاسوبي كي أُتابع الكتابة، فالدموع تحجب الرّؤية.

 

ملحوظة: جزيل الشكر والتقدير صديقي العزيز عبد الرحمن ابن الشاعر بركات لطيف، الذي أرسل لي صور هذا المقال.

 

 

العدد 1104 - 24/4/2024