موسم الهجرة خارج الجحيم

حسين خليفة:

يكاد لا يمرُّ يومٌ إلّا وتقدّم فيه الحكومة (هدايا) جديدة للسوريين الباقين في بلدهم، تكريماً لهم ومكافأة على استمرارهم في الخدمة المجانية للحكومة، وعلى استمرار العيش في الجوع والبرد والصمت.

وكأن هذه الحكومة خجلة ممّا تفعله، فتصدر قراراتها ليلاً، تارةً برفع أسعار المحروقات (عصب الاقتصاد والحياة، ولذلك فهي تجرُّ معها صعوداً أسعار كل مستلزمات العيش)، وتارةً أخرى برفع أسعار الأدوية والكهرباء والمياه والخبز، وهذه من أساسيات العيش، كما لا يخفى على أحد، فتلحقها وترتفع معها، بشكل (طبيعي)، أسعارُ جميع السلع والخدمات.

نعم، نحن_ السوريين العاملين في الدولة الآن_ نعمل عندها مجاناً، كُدتُ أقول: نحن أقنانٌ لديها، لكن القنَّ يتكفّل سيده بإطعامه، أمّا نحن السوريين فحتى طعامنا يدير سيدنا ظهره له، ويترك أمر تأمينه لكلّ قنٍّ من أقنانه ليُدبّر رأسه، كما عوّدنا منذ زمن طويل، بل إنه يُلزمُنا بإطعام حيتان الأسواق وأثرياء الحرب وتجّار الممنوعات، من خلال الارتفاعات المستمرة والخيالية في أسعار السلع الأساسية لإرضاء هؤلاء الذين يحتكرون استيراد المواد الأساسية لمعيشة الناس، ومعلومٌ أن لكلّ حوتٍ احتكاراً مُحدّداً لا ينافسه عليه أحد.

(اعمل لديّ، الجأ إلى واسطة أو رشوة لتتعيّن لدي، وسأعطيك شهرياً 15 دولاراً!)_ يقول السيد للقنّ، مع أنه يعلم أنّ وسطي تكاليف المعيشة لأصغر عائلة سورية (من خمسة أفراد) أصبح بحدود 12 مليون ليرة سورية شهرياً، حسب مؤشِّر قاسيون لتكاليف المعيشة، وهو مؤشِّر علمي ودقيق، على عكس كثير من المؤشّرات التي تصدر عن جهات مُقرّبة من السلطة التي (ترشُّ على الموت سكّر) وتروّج للبروباغاندا التي حفظها السوريون عن الحصار والمؤامرات والصمود، في حين يعيش مروّجو تلك الشعارات في ترف وبذخ أسطوريّين،  بينماِ الجوع ينهش أجساد الفقراء وأرواحهم، وقد أصبحوا الأغلبية العظمى في سورية.

ومع قدوم العام الجديد لم تتوقف حكومة الحيتان عن إصدار المزيد من قرارات خنق الفقراء وإنعاش القلّة من الأثرياء واللصوص، واستمر الجمود في أجور العاملين في الدولة وكذلك في القطاع الخاص الذي يشبه كثيراً حكومته في النظرة إلى العامل ومتطلباته، فهي تتلخّص بعبارة ردّدها كثيرون في مواقع القرار: هذا هو الموجود، ومن لم يعجبه يستطيع أن يهاجر!

الأمور أصبحت مكشوفة لأبسط الناس، ولم يعد يُجدي نفعاً غبار التصريحات والشعارات في حجب آلية النهب الوقح لجيوب الفقراء وإعادة توزيع الثروة لصالح القلّة التي تمارس على الملأ بطراً وعهراً غير مسبوقَين.

لذلك ولغيره، لم يعد أمام الشباب السوريين، على اختلاف مهنهم ومؤهلاتهم العلمية أو العملية، للأسف، سوى الإسراع في استخراج جواز السفر (رفعوا كلفته مؤخراً إلى 4 ملايين ليرة، للفوري) أو تجديد جوازاتهم، ليُيمّموا وجوههم شطر البلاد الأخرى المجاورة والبعيدة (حتى العراق الذي يئن تحت وطأة الحروب والانقسامات والتدخلات الإقليمية والدولية، والذي بلغ فساد الفئات الحاكمة فيه أرقاما فلكية، هذا البلد الجار والجريح أصبح مقصداً لعشرات الآلاف من شبابنا وشاباتنا، وكذلك إقليم كردستان، فضلاً عن تركيا بوابة الهروب إلى جنّات اللجوء في أوربا، ولبنان والأردن).

لأنه ليس في الأفق أي بشائر للتغيير المنشود في سورية، التغيير الذي يبدأ بالحوار بين كل السوريين على اختلاف قواهم وأحزابهم وفئاتهم وقومياتهم، دون إملاء أو وصاية من أي طرف، وينتهي إلى التأسيس لعقد اجتماعي جديد يقوم على سيادة القانون وتداول السلطة وفصل السلطات ودولة المؤسسات المنتخبة والخاضعة للمحاسبة من أعلاها إلى أدناها.

ولأنهم سدّوا كلّ أفق للتغيير، وأمعنوا في حجب فرص العمل والاستثمار سوى لأثرياء الحرب وتجّار الممنوعات، وخرّبوا الاقتصاد والثقافة والسياسة والمجتمع وحتى الرياضة، فلا داعي للتفكير يا أبناءنا الشباب، انطلقوا إلى ما تبقّى من مطارات لم تصبح خارج الخدمة دون أن يرفَّ جفنٌ لأصحاب الشعارات ومُحلّلي الصدفة، الذين يعيدون نثر لعابهم على الشاشات، ويكرّرون (السيمفونيات) التي ملّ بل قرف منها السوريون. حاوِلوا أن تبنوا مستقبلكم ومستقبل أهلكم وأبتائكم خارج هذه البقعة الطاردة لكلّ إبداع وفعل خلاق، حتى يأتي يوم تعود فيه البلاد إلى أهلها، وسيكون حينئذٍ لكم، ولكلّ من هرب من هذا الخراب، مكانه ومكانته في بلده.

طبعاً الشباب لا ينتظرون نصيحتي أو نصيحة غيري، فالبلاد، اليوم، تكاد تفرغ من الطاقات الشابة والمبدعة والمؤهلة، بفضل الحكمة والعقلانية في مواجهة الأزمة الكبرى التي شهدتها البلاد وما زالت.

العدد 1104 - 24/4/2024