المناهج البحثية المستخدمة عندنا في بحث الواقع الذي نعيشه

يونس صالح:

أصبح البحث عن الثروة أكثر أهمية من البحث عن (الفائدة والجدوى) (وهو اتجاه شبيه بما حدث للفن من اهتمام بالشكل على حساب المضمون).

فكثيرون من المشتغلين بهذه العلوم ينفقون أكثر من اللازم من وقتهم وجهدهم في سبيل أن تكون نتيجة أبحاثهم أقرب إلى اليقين، ولو كان الموضوع الذي يبحثون فيه عن اليقين غير مهمّ بالمرّة، تأمّل مثلاً كم من الوقت والجهد ينفقه عالم الاجتماع في تصميم وصياغة قائمة الاستفسارات التي يقوم بتوزيعها على عينة مختارة من الناس، للحصول على إجاباتهم على عدد من الأسئلة، ويعتقد أنه عن طريقها يمكن اكتشاف اتجاهات مواقف هؤلاء الناس من قضية معينة، ثم يبذل وقته وجهده في محاولة اكتشاف هذه الاتجاهات وصياغتها الصياغة الدقيقة، دون أن يلتفت إلى أن السؤال الذي يحاول الإجابة عنه من البداية هو سؤال تافه، كلنا يعرف إجابته سلفاً، بالبديهة، أو بالمنطق السليم، أو الملاحظة اليومية، فمثلاً الرجال في ظروف التضخم وارتفاع أعباء المعيشة كما هو الحال عندنا يميلون إلى تفضيل الزواج من امرأة عاملة أكثر مما كانوا في ظل ظروف اقتصادية أقل صعوبة، أو أن نسبة المتعلمين بين الفقراء أقل من نسبة المتعلمين بين الأعلى دخلاً، أو أن أحد أسباب الفقر بين سكان الريف هو انخفاض ما يحوزه المرء من أرض زراعية.. إلخ. لقد صادفت مرة اقتصادياً أنفق الساعات في جمع الأرقام المتعلقة بإنتاجية العمل، ثم ساعات أخرى أمام الكمبيوتر لكي يكتشف العلاقة بين إنتاجية العمل ومستوى التعليم، ليصل إلى نتيجة كنا نعرفها سلفاً تمام المعرفة، وهي أنه كلما ارتفع مستوى التعليم زادت إنتاجية العمل، بشرط طبعاً أن يكون التعليم محل البحث هو من النوع الذي من شأنه أن يرفع إنتاجية العمل، أي أن القضية كلها التي كان يحاول إثباتها هي من قبيل تحصيل الحاصل، أي تنطوي مسلماتها على نتائجها!
إن علم الاقتصاد الحديث مليء بالأمثلة على هذا الميل إلى (التعبير عن الباطل بدقة)! فمثلاً نظرية المستهلك كلها التي تقوم على افتراض أن المستهلك شخص رشيد، يحسب كل قرار استهلاكي يتخذه بدقة- نفقاته ومنافعه- ويحيط علماً بكل المعلومات اللازمة لاتخاذ هذا القرار، من أنواع المنتجات المطروحة، إلى مختلف الأسعار التي تباع بها هذه المنتجات في هذا المكان أو ذاك، ويتخذ قراره بناء على كل ذلك.

إن رجل الاقتصاد ينفق وقتاً طويلاً في محاولة تحديد الخطوات التي يتخذها المستهلك للوصول إلى هذه النتيجة، وهي تعظيم المنفعة، ليخبرنا في النهاية بما يسميه (شروط  توازن المستهلك) مع أننا نعرف جيداً من ملاحظتنا لأنفسنا ولتصرفات الأشخاص المحيطين بنا، أن المستهلك نادراً جداً ما يكون إنساناً رشيداً، ونادراً جداً ما يكون محيطاً بكل المعلومات اللازمة لاتخاذ قرار رشيد، ونادراً جداً ما ينجح المستهلك في تعظيم منفعته من الاستهلاك، ومن ثم فالدقة التي يصل إليها الاقتصاد هي (دقة التعبير عن الباطل) بينما كان من الأجدى أن يحاول الاقتصادي أن يصف لنا مختلف العوامل التي تؤثر في سلوك المستهلك، وتجعله يتصرف على النحو الذي يتصرف به بالفعل، رشيداً كان أو غير رشيد، كأثر الظروف العائلية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في الاستهلاك.. إلخ، صحيح أن النتائج التي سنصل إليها في هذه الحالة لن تكون دقيقة، إذ إن معظم هذه العوامل من الصعب قياسها بدقة، ولكن النتائج في هذه الحالة ستكون أقرب إلى الحقيقة، وهذا أفضل من الوصول إلى الباطل بدقة حسب رأيي!

إن هذه القصة تبدو لي مشوقة للغاية لأنها تمثل في رأيي تلك القضية القديمة والجديدة في البحث العلمي، قضية مفاضلة الوصول إلى التعبير التقريبي وغير الدقيق عن جزء مهم من الحقيقة، وبين التعبير الدقيق والأنيق عن حقيقة غير مهمة البتة أو حتى عن عكس الحقيقة تماماً، ولكن المؤكد على أي حال الذي يمكن أن يقرره المرء باطمئنان، أن البديل للتعبير التقريبي وغير الدقيق عن جزء مهم من الحقيقة يجب ألا يكون تغيير الموضوع، أو محاولة البحث عن شيء مختلف تماماً مهما كان تافهاً، لمجرد أنه من الممكن التعبير عنه تعبيراً دقيقاً، بل أن نحاول أن نزيد فهمنا للحقيقة بكل دقة وشمولية، أما من يقبل غير ذلك، كهؤلاء الذين راحوا يبحثون عن حقيقة الإنسان بإجراء التجارب على الأرانب والكلاب، فهم لا يختلفون كثيراً عما نسب إلى جحا في نادرته الشهيرة عندما فقد قرشاً في مكان مظلم فراح يبحث عنه في مكان مختلف تماماً عن المكان الذي فقده فيه، فلما سئل عن السبب في ذلك قال: (إن الضوء هنا أفضل)!

العدد 1105 - 01/5/2024