حول قضية الحرية في البلدان العربية
يونس صالح:
إن قضية الحرية في البلدان العربية على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة.. إنها كغيرها من بلدان نامية كثيرة تمرّ من المرحلة التقليدية إلى مرحلة التحول ثم إلى مرحلة الانطلاق.. وإن شئنا اختصار هذه المراحل الثلاث في مرحلتين فإننا نقول إن البلدان العربية عموماً تمر من مرحلة الشرعية التقليدية إلى مرحلة الشرعية الدستورية.. وفي مرحلة الشرعية التقليدية تشتغل الغالبية العظمى من السكان بالزراعة والرعي، وتصبح القبيلة أو العشيرة أو العائلة هي الممتدة المحور الأساسي للحياة الاجتماعية، وتتركز السلطة في يد شيخ القبيلة أو رب العائلة الذي يقوم بتدبير شؤون الأفراد وفقاً للعرف والتقاليد، فضلاً عن أن الحرية الفردية لا يكون لها كيانها المتميز ووجودها المستقل، إنما تذوب داخل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد.
أما في مرحلة الشرعية الدستورية، فيتجه الأفراد إلى العمل في الصناعة، وتحل العلاقات والضوابط الرسمية محل العلاقات والضوابط غير الرسمية، وتصبح الهيئة الحاكمة مقيدة بقواعد دستورية، ونصوص قانونية، وتظهر الشخصية الفردية بكيانها المتميز ووجودها المستقل.
ومن الملاحظ أن كثيراً من المجتمعات النامية مازالت تكافح في سبيل الوصول إلى مرحلة الشرعية الدستورية، فعلى الرغم من أن كثيراً من هذه المجتمعات تأخذ بالأسلوب الديمقراطي- من الناحية الرسمية أو الشكلية، إلا أن بناء القوة من الناحية الفعلية لا يقدم بشكل متوازن بين الحاكمين والمحكومين، فالأحزاب السياسية تنشأ بقرارات عليا، ووسائل الإعلام تسيطر عليها الهيئة الحاكمة، والمناصب الكبرى، يجري شغلها عن طريق التعيين، إلى غير ذلك من وسائل التحكم في أرزاق الناس ومقدراتهم، ويعتمد بعض الحكام في هذه المجتمعات على بعض ما حققوه من إنجازات سياسية أو غيرها، فيحاولون أن يحيطوا أنفسهم بهالات البطولة، ويجعلوا من أشخاصهم زعماء كاريزميين، ويعملوا على أن تكون لهم صلاحيات تتفق مع قدراتهم التي يعتقدون أنها لا تتوافر لدى غيرهم من الناس.. والنتيجة الحتمية المترتبة على ذلك هي حدوث خلل طبيعي في بناء القوة في تلك المجتمعات، وشعور الأفراد بوجود هوة كبيرة تفصل بين الحرية في مضمونها النظري، والحرية كما تمارس في إطار الواقع الفعلي.
وهنا تثور تساؤلات: ما موقف المثقفين إزاء هذا التحدي الذي يواجهونه؟ وما نوع الاستجابة المتوقعة منهم؟ وهل تشفع لهم أزمة الحرية في الوقوف من الأحداث الهامة والقضايا المصيرية موقفاً سلبياً إيثاراً للسلامة، وضماناً للعيش في هدوء وأمان؟
وهنا يمكن أن نفرق بين نمطين من المثقفين، نمط يدرس الواقع ويحاول تفسيره دون أن يسعى إلى تغييره، ونمط آخر يعمل على نشر أفكاره حتى يتمكن من تكوين رأي عام مستنير يعمل على تغيير جانب أو أكثر من جوانب الحياة القائمة.
وهناك أمثلة كثيرة على هذه الأنماط من المثقفين، إلا أن العلاقة بين أزمة الحرية والمطالبة بالتغيير علاقة جدلية، كلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، فكما أن الحرية تهيئ للمثقف المناخ الفكري الملائم للخلق والابتكار، فإن أزمة الحرية تثير في المثقف تحديات تدفعه إلى المطالبة بالتغيير.
والتاريخ حافل بكثير من الأمثلة التي تشهد على ذلك، ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا ترزح تحت وطأة الحكم المطلق، ظهرت كتابات المفكرين من أمثال جان جاك روسو، الذي قال عبارته المشهورة: خُلق الإنسان حرّاً ولكنّه الآن مقيّد بالسلاسل والأغلال.. وقد يعتقد إنسان أنه سيد غيره، وهو لو يدري أكثر منهم عبودية!
ولقد قاوم كل من الشيخ محمد عبده والكواكبي الحكم الاستبدادي، على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تمر بها مصر وبلاد الشام في ذلك الحين.
إن استقراء الواقع التاريخي يشير إلى أن أدب المقاومة يزدهر كلما تأزمت الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية., ولقد انبعثت منذ مطلع القرن العشرين في أغلب البلدان العربية الدعوة إلى الحرية السياسية على الرغم من الحصار الفكري الذي كان يفرض على المثقفين وأرباب الكلمة الحرة، ورغم كل المعوقات لابد أن تتحول هذه الدعوة إلى تغييرات شاملة تعم الحياة في بلداننا بكافة جوانبها وأبعادها.