عن مشاعيَّة كارل ماركس
عبد الرزاق دحنون:
كارل ماركس من أولئك الفلاسفة الكبار الذين يتمتعون بقدرة مذهلة على الاستمرار، إذ تكامل مشروعه المشاعيّ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، فهو الذي أطلق هذه الحركة المشاعيَّة التي انتظم فيها ملايين الجياع في شتى القارات، وأدَّت إلى تحسينٍ جذريّ في معيشة الكادحين على نطاق كوكب الأرض، وهذا ما سعى إليه من تأليف كتابه المشهور (رأس المال). وقد ورد في كُتب التراث الإسلامي: جاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح، فسألت عسلاً، وقالت: زوجي مريض، فأمر لها براوية عسل، فقالوا: يا ابن سعد: إنّما تسأل قدحاً. قال: سألت على قدرها ونعطيها على قدرنا. وقيل للمغيرة بن شعبة: من أحسنُ الناس؟ قال: مَن حسّنَ في عيشه عيشَ غيره. وعن عمر بن الخطاب قال: أسعد الناس من سعد به الناس وأشقاهم من شقوا به. وعن سفيان الثوري: إنّي لألقى الرجل فيقول لي مرحباً فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأ بساطه وآكل ثريده وأزدرد عصيده؟!
وأزعم بأن مشاعيَّة الشرق تقف على صعيد واحد مع مشاعيَّة كارل ماركس، ونحن نلحُّ بأنه أنتج معارف فلسفية هي في المجمل أقرب إلى فلسفات أهل الشرق وخاصة في أشواقها الإنسانية. ذلك أن قوامها الاجتماعيّ المتمثل في الشيوعيَّة الحديثة يضفي على الفلسفة الماركسيَّة مسحة من روح المشاعيَّة الشرقيّة. ويتميز فلاسفة الماركسيَّة الأوائل كارل ماركس، فريدريك أنجلز، بليخانوف، لينين، بهذه الروح التي تضعهم في تضادّ مع فكرة التملّك في عالم رأس المال.
يمكن بسهولة أن نتلمس في تطلعاتهم وأحلامهم كما في سلوكياتهم خصال أهل الحكمة في الشرق، أي ذلك النمط من المثقفين ذوي العقول السامية والرؤى الكونية الشديدة الحماس لخدمة البشر. والمشاعيَّة بالتعريف الاقتصادي تضادّ الملكية، فالمشاع لا يملك ويتشكل تاريخ الشرق من الصراع بين المشاعيَّة والتملّك. والمشاع عند أهل الشرق يعني وضع المال، أو ما ينوب عنه، في الطريق أو السبيل، أو جعله في سبيل الله، أي توزيعه على عباد الله. والمصطلح أورده فيلسوف المعرّة بقوله في اللزوميات:
ففرّقْ مالكَ الجمَّ..
وخلّ الأرضَ تسبيلا!
والمال والأرض -ظاهرها وباطنها- كلّها لله في عرف أهل الشرق. والمتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقّه: من مال الله! يعي أصول المشاعيَّة أو الشيوعيَّة الحديثة -على بساطته وأميته- أكثر منا نحن الذين ندّعي فهمها.
وعندما أشرقت على الأرض شمس الاشتراكيّة البلشفيّة، التي سمّاها تروتسكي: حكومة الفقراء؛ وفَّرت الأرض لمئة مليون فلاح روسي، وهذا أعظم إنجاز وفّرته ثورة للناس منذ فجر التاريخ. وأنا ما عندي شيء أقترحه لبداية البدايات حتى تستقيم حياة الفقراء من جديد، فعندما حاول بلاشفة روسيا بقيادة حكيمهم لينين قلب الدنيا لصالح الفقراء نزلت عليهم نازلةٌ من بينهم. مع أن لينين وعدهم في مقال خطير منشور في جريدة (البرافدا) في العدد 251 تاريخ السابع من تشرين الثاني سنة 1921 تحت عنوان حول أهمية الذهب: (…حين ننتصر في النطاق العالمي، سنصنع من الذهب، كما أعتقد، مراحيض عامة في شوارع بعض أكبر مدن العالم. وسيكون ذلك أعدل استعمال للذهب وأوضحه دلالة للأجيال التي لم تنسَ أنه بسبب الذهب ارتُكبت أبشع المجازر بحق الإنسان…).
في قول لينين حلمان: حلم انتصار الجياع وبناء مجتمع العدل، وحلم التخلّي عن الملكية، وجعلها مشاعاً بين الناس. تحوَّلَ لينين في حياته إلى طاقة روحية خالصة مستثمرة لأجل الجياع. لقد أهلك نفسه من أجل الفقراء المساكين. وهذه من نوادر التاريخ، إذ المعتاد أن يهلك الحاكم نفسه من أجل نفسه.
وهؤلاء الأبدال، كما يسمّيهم معلّمي الراحل هادي العلوي البغدادي، حاولوا عمارة الأرض بالعدل، فما أفلحوا.
وكان ما كان ممّا لست أذكره..
فظُنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر!
وفي عام 1883 انضمّ حشدٌ إلى جنازة كارل ماركس، حشد صغير مؤلف من أحد عشر شخصاً، بضمنهم موظف الدفن، متجهين إلى رفاته، الذي حمل أشهر عباراته التي نُقشت على لوحة القبر: (الفلاسفة فسّروا العالم بطرق مختلفة، ولكن المسألة تكمن في تغييره).
هذا المشاعيّ الجليل الذي عمل على تغيير العالم أمضى حياته هارباً من الشرطة، ومن الدائنين، وحول عمله الأهم، يقول: لم يكتب أحد هذا الكم من الكتابة عن المال، وهو لا يملك إلا قليلاً جداً من المال. وحاصل بيع كتاب (رأس المال) لن يكفي لتسديد ثمن التبغ الذي دخّنته وأنا أكتبه.