أطفال سورية بانتظار المعجزة

حسين خليفة:

الأطفال والنساء والعجائز هم أضعف الحلقات في المجتمعات، والشرقية منها خصوصاً، بسبب عدم وجود بيئة قانونية ومؤسساتية في الأخيرة تحمي هذه الفئات، وتفرض على الدولة والمجتمع قوانين تُحدّد حقوقها وواجبات الدولة والمجتمع تجاهها، الأمر الذي توفره المجتمعات الغربية بسبب التطور والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لهذه المجتمعات وترسّخ الفكر العلماني واحترام القانون.

بينما في مجتمعاتنا التي ما تزال عالقة في القرون الأولى من تاريخ البشرية الحديث، حين نزلت الأديان وأجرت إصلاحات كبيرة في مجال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية لكن هذه الإصلاحات استنفدت أغراضها، واستجدّت وقائع ومشاكل خلال قرون تلت انتشارها وتحكّمها لتصبح عائقاً أمام التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ممّا حدا بالمجتمعات القائمة على العقلانية إلى تحديث دساتيرها وقوانينها، نحو فصل الدين عن الدولة، لتصبح المؤسسات والقوانين هي التي تحمي الضعفاء لا التعاليم والأعراف.

فيما بقيت مجتمعاتنا غارقة في عبادة الماضي وتقديسه، في ظروف لم يعد فيها بإمكان الوحدات المجتمعية السابقة (العائلة، العشيرة،.. الخ) أن تستمرّ بالدور الذي كانت تقوم به في حماية الفئات الضعيفة ورعايتها وتأمين مستلزمات حياتها بسبب تغيّر حياة الفرد ونقص الموارد ما خلق حالة أقرب إلى الانعزال نتيجة الانشغال المستمر للأفراد في تأمين احتياجاتهم الفردية أو تكوين عائلات خاصة بهم، وبالتالي عدم إمكانية التفرّغ لرعاية المسنين والأطفال الذين فقدوا عائلاتهم لسبب أو آخر.

هذه الحالة عالجتها المجتمعات المتقدمة كما أسلفنا وأدرجتها في قوانينها، بينما بقيت مجتمعاتنا مُتمسّكة بالأطر القديمة نفسها في ظلِّ انخراطها مرغمة طبعاً في عصر جديد تحكمه السرعة واستبداد العمل بالفرد ممّا منعه من القيام بما كان يقوم به في ظلِّ مجتمع العشيرة أو القرية أو العائلة الكبيرة.

ومع تراجع الأنماط المجتمعية الرعوية والزراعية التقليدية، وطغيان الأنماط الصناعية والملكيات الكبرى في الزراعة لشركات ورؤوس أموال، تحوّلت الغالبية إلى عمال أجراء بعد أن كانوا مالكين أو مستقرين في ملكيات إقطاعية تقوم مع رجال الدين والعشائر والوجهاء بمهمة الحماية للفئات التي تحتاجها بحكم الأعراف والتعاليم الدينية.

الأمر الذي ترك هذه الفئات ـ والأطفال خصوصاً ـ مكشوفة ومتروكة بلا حماية ولا رعاية، وأصبح تعرّضها للاستغلال والمتاجرة أمراً واقعاً لكنه مغطى بطبقات كثيفة من الكلام المعسول والمحفوظات القديمة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، ولم يتم الاعتراف بها بسبب استمرار النفاق المجتمعي والتكاذب المتبادل خوفاً من اتهام مجتمعاتنا بالانحلال الخلقي والانحدار القيمي الذي يتم دائماً اتهام المجتمعات المتقدمة به، في حين أن الحقيقة هي أن مجتمعاتنا تعيش انحلالاً في الأخلاق وانحداراً في القيم يفوق المجتمعات الغربية أضعافاً مضاعفة، لكن ما ذكرناه من سيادة النفاق والتكاذب والخجل من الاعتراف بالحقيقة والخوف من الفضائح هو ما يُسدل ستائر سميكة على هذه الحقائق لنقوم باتهام الآخرين بما فينا وننام قريري العين بأننا خير أمة أُخرجت للناس ناسين أنها حتى في الذكر الحكيم تقترن بفعل ماض ناقص(كنتم).

حالات استغلال الأطفال بشكل عام تبدأ بعمالة الأطفال وحرمانهم من التعليم والتمتّع بطفولتهم من لعب ولهو وتسلية، وتطوير للمواهب، وتأمين رعاية صحية ونفسية مناسبة لكل طفل، وكذلك تأمين المسكن والملبس والغذاء والتدفئة، وتنتهي بأخطر أشكالها وهو استغلال الأطفال جنسياً، وهو يتضمّن  بغاء الأطفال، واستغلالهم في المواد الإباحية، وبيع الأطفال والاتجار بهم.

وقد حدّد الإعلان الصادر عن المؤتمر العالمي لمكافحة الاستغلال الجنسي التجاري للأطفال، الذي عقد في ستوكهولم في عام 1996، الاستغلال الجنسي للأطفال  CSEC على أنه: (الاعتداء الجنسي من قبل الكبار والمكافآت النقدية أو العينية للطفل أو لشخص ثالث أو أشخاص، حيث يعامل الطفل ككائن جنسي وكمادة تجارية. ويشمل CSEC السياحة التي تستهدف ممارسة الجنس مع الأطفال وغيرها من أشكال ممارسة الجنس، حيث يمارس الطفل أنشطة جنسية لتلبية الاحتياجات الأساسية، مثل الغذاء أو المأوى، أو الحصول على التعليم. ويشمل أيضا أشكال ممارسة الجنس في البيئات التي تمنع ذلك ولا تُبلّغ عنه الأسرة، حيث تستخدمه كمورد للحصول على المنافع من المعتدي على الطفل).

ويعتبر زواج الصغيرات نوعاً من أنواع الاستغلال الجنسي للأطفال. فقد صرح المركز الوطني للأطفال المفقودين والمستغلين ( NCME) بأن واحدة من بين كل خمس فتيات، وواحداً من كل عشرة فتيان يتمُّ استغلالهم جنسياً قبل بلوغهم سن الرشد.

وقد انضمت سورية إلى البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل المتعلق ببيع الأطفال واستغلال الأطفال في المواد الإباحية بالمرسوم رقم 379 تاريخ23/10/2002 وبالمرسوم الملحق به رقم 35

ويحظر القانون السوري بيع الأطفال أو استغلالهم جنسياً أو استخدامهم في البغاء أو المواد الإباحية.

لكن كما أي قانون يبقى حبيس الكتب حين لا يكون هناك حكم قانون.

فزواج الصغيرات ما زال مستمراً ويتم الالتفاف على القانون بسهولة بوجود الزيجات خارج المحكمة، ويتم تثبيتها عندما تكبر الضحية، وحالات استغلال الأطفال جنسياً مستمرة في أماكن عملهم أو في البيوت أيضاً نتيجة حاجة الأهل وفقرهم وصمتهم عن الجريمة أو تجاهلها مقابل تأمين بعض احتياجاتهم من قبل الجاني.

ثم أفرزت الحرب والنزوح والفقر الأسود الذي شاع نتيجة الخراب الاقتصادي والنهب حالات أكثر بكثير مما كان قبل الحرب، وساد غياب القانون في مناطق سيطرة الميليشيات في كل المناطق سواء تلك التي تسيطر عليها ميليشيات معارضة، أو تابعة لتركيا، أو في المناطق التي تتحكّم فيها ميليشيات غير منضبطة تابعة لأجهزة ودول تدخّلت في الحرب السورية لتحقيق مصالحها. حيث تتم جميع أنواع الانتهاكات لحقوق الأطفال بلا رادع، وتقف المنظمات الدولية عاجزة عن فعل أي شيء رغم تقاريرها الكثيرة والتي لا يتسع المجال لذكرها.

وأضيفت الى الانتهاكات التي ذكرناها ولادة أعداد كبيرة من الأطفال مجهولي النسب من حالات الزيجات الإجبارية في مناطق سيطرة الميليشيات الإسلامية المتخلفة، وحالات اغتصاب النساء في المخيمات والمعتقلات وغيرها.

هؤلاء الأطفال أصبحوا مادة سهلة للمتاجرة والاستغلال، وهم وصمة عار جديدة على جبين مُشعلي الحرب والوالغين في دماء السوريين، والذين أثروا من هذه الحرب ضمن كل أطرافها، ويريدون لها أن تبقى ليزداد إثراءهم وبطرهم.

وككل القضايا الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية فإن أي حل لمأساة أطفالنا يصطدم بغياب حل سياسي يُجمع عليه السوريون بكل مكوناتهم وانتماءاتهم دون تفرّد أو ادعاء لامتلاك الحقيقة، وهو مرهون بتنفيذ هذا الحل الذي تتضمّنه قرارات الأمم المتحدة وخصوصاً القرار 2254 الذي أجمعت عليه كل الأطراف، لكن المتضررين من تنفيذه في طرفي المعادلة السياسية يعرقلون تنفيذه، وبالتالي يتحمّلون مسؤولية كل ما عاناه ويعانيه السوريون بمن فيهم أطفالنا الذين نخسرهم ونرميهم في غياهب الضياع بتجاهلنا لضرورة الحل السياسي ووهم الانتصار الكاذب.

العدد 1104 - 24/4/2024