حديث حول ثقافة البرمجيات

يونس صالح:

أصبحت الثقافة، سواءٌ أكانت تواصلاً أو إبداعاً أو حصاداً أو توجهاً أو قيماً وتقاليد، سواءٌ أكانت أيّاً من هذا، أصبحت ذات صلة وثيقة بتكنولوجيا المعلومات، بصفتها وسيلة للتواصل وأداة للإبداع، ودعوة لتجديد القيم، ومنظاراً يرى به إنسان اليوم عالمه من خلال وسائل إعلامها ولوحات تحكّمها ونماذج محاكاتها. وسأتحدث عن تلك العلاقة التبادلية المتمثلة في ثقافة البرمجيات.

إن ثقافة البرمجيات تنطوي على العديد من القضايا الساخنة والأسئلة المحورية التي مازالت أبعد ما تكون عن الحسم، إن لم يكن الفهم، وسنكتفي هنا ببعض منها وهي:

* فكر البرمجيات.

* قيم البرمجيات.

* الآلية والإنسانية.

 

فكر البرمجيات

لقد قامت تكنولوجيا البرمجيات كما هو معروف على ثنائية الصفر والواحد، التي تصاغ من خلالها تعليمات البرمجة، وعلى ما يبدو فإن البرمجيات قد استقطبت الثنائية بداخلها لتنشر الفكر غير الثنائي فيما هو دونها، إنه فكر جديد يرى الظواهر في مسار متصل يستطيع أن يميز مناطق التدرج بين أطراف الثنائيات التي رسخت في أذهاننا، من قبيل: ثنائية المثالية والمادية، وثنائية الذاتية والموضوعية، وثنائية العلوم والفنون وغيرها..

لا شك أن الفارق بين تكنولوجيا المعلومات وغيرها من التكنولوجيات يكمن في قدرتها الفائقة على تحطيم كثير من الثنائيات الراسخة والتي من أهمها:

– ثنائية المادي وغير المادي المتمثلة في الاندماج بين العتاد المادي والبرمجيات اللامادّية وسهولة التنقل بينهما.

– ثنائية العضوي وغير العضوي المتمثلة في التقاء التكنولوجيا الحيوية مع تكنولوجيا المعلومات القائمة على العناصر الفيزيائية غير الحيوية.

– ثنائية الواقعي والخيالي والمتمثلة في تكنولوجيا الواقع وسكنى عوالم الفضاء المعلومات.

وهناك العديد من الثنائيات الأخرى التي يمكن إدراجها كفروع لتلك الثنائيات السابقة، أو كنتائج مترتبة عليها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ثنائية المجازي والحرفي، ثنائية المكتوب والمنطوق، وثنائية البشري والآلي، وثنائية التعليم والتعلم، وثنائية المدرسة والعمل، وثنائية الفرد والجماعة وغيرها.

لقد سيطرت هذه الثنائيات ومثيلاتها على فكرنا في الماضي، وسواء كانت قيداً أو منطلقاً، مدخلاً أو مخرجاً، فقد كان لهذه الثنائيات أثرها البالغ على صياغة أهدافها.. إن هذه الثنائيات تحصر التفكير بين بديلين لا ثالث لهما، تطمس الطيف المعرفي الذي يربط بين طرفيها، فيتعذر بالتالي فهم طبيعة العلاقة الجدلية بينهما، وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى أن البرمجيات في مسعاها لمحاكاة الذهن البشري تريد هي الأخرى، أن تتخلص من ثنائية الفكر الأرسطي القاطع الذي يقوم على الحكم على صواب أو خطأ المقدمات والنتائج دون بدائل أخرى تغطي المساحات الرمادية التي تفصل بين طرفي الصواب والخطأ، وذلك من أجل استيعاب المحتمل والممكن وغير المحدد وغير المكتمل.

 

قيم البرمجيات

لقد أوشكت التكنولوجيا في غمرة نجاحها، أن تستقل بذاتها، وأن تفرض علينا منطقها وقيودها. لقد قامت حياتنا المادية على تكنولوجيا غاية في النجاح، في حين تئن حياتنا الروحية تحت وطأة الخواء، فقد ألهتنا هذه التكنولوجيا بقدرتها الفائقة على إحداث التغيير، فنسينا ما بقي- وسيبقى دوماً- لقد نسينا مطالبنا الوجدانية، وحاجتنا الدائمة إلى المثل العليا، وإلى الألفة والتآخي والإحساس بالذات.

وتأتي تكنولوجيا المعلومات وعولمتها لتنذرنا بعالم جديد مليء بالاحتمالات وعدم اليقين، وكأننا مساقون إلى مصير لا ندري عنه شيئاً، فنحن نعيش عالماً تاهت فيه- من فرط تعقّده- المعالم الفاصلة بين النظام والفوضى، وبين الخاص والعالم، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الحياة في عالم الواقع، وسكنى الفضاء الرمزي. لقد بات الإنسان في حاجة إلى تجديد نظام قيمه بما يتفق وهذا العصر.. إن البرمجيات فرضت نوعاً جديداً من القيم والتقاليد.

 

الآلية والإنسانية

إن التطور التكنولوجي المذهل قد جعل الإنسان يقدس ما أبدعه عقله وما صنعته يداه.. لم تكن نزعة التقديس تلك أقوى مما هي عليه الآن بالنسبة لآلة الكمبيوتر التي صنعها الإنسان أقرب ما تكون إلى صورته، فجعل لها مخّاً وذاكرة صناعية وشبكة أعصاب صناعية، وزوّدها بأطراف كهربية وميكانيكية، وعيون وآذان إلكترونية، وعلّمها الحركة والكتابة والقراءة، ومنحها لغته ووضع في برامجها عصارة فكره.. وكلما زاد الإنسان تلك الآلة النهمة قدرةً، أفاض عليها مزيداً من التقديس كاد ينقلب إلى حد الرهبة.. لقد اقترب الحوار بين الإنسان والآلة من أن يكون بديلاً عن الحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، والتواصل عن بعد من أن يكون عوضاً عن فقدان التواصل مع الجار والقريب.

وسؤال الختام الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن تتآلف الإنسانية والآلية في مزيج (إنساني) إن جاز التعبير بالمزج، حتى يمكن لإنسان اليوم مواجهة زخم المشكلات التي تحيط به من كل صوب؟ لقد بات ضرورياً للإنسان أن يصلح بعقله ما أفسدته يداه، والأمل معقود على البرمجيات في أن تقيم عالماً يسوده سلام قائم على التنوع الثقافي وحوار الحضارات والتكاتف الإنساني في مواجهة المصير المشترك الزاخر بالتحدّيات.

العدد 1105 - 01/5/2024