الإرهاب الدولي وإرهاب الدولة

يونس صالح:

يبدأ التاريخ عند البعض بانفجار قنبلة، أو رصاصات رشاش أطلقها فردٌ واحد أو مجموعة أفراد، فتتجه الأصابع بعدئذٍ كي تشير إلى أن الأمر ما هو إلا عمل إرهابي.. لكن التاريخ يسجل لدى أهل البصيرة أن وراء الكثير من الأحداث والطلقات قصص ظلمٍ عظيمة.

منذ أن بدأ الاهتمام الدولي في إطار الأمم المتحدة بمعالجة الظاهرة المسمّاة بالإرهاب الدولي، وثمة حرص على التمييز بين أعمال الإرهاب، التي تروح ضحيتها أرواح بريئة، والكفاح المسلح الذي تمارسه حركات التحرر الوطني في حدود تحقيق أهدافها المشروعة ضد المستعمر.. وقد ظهر ذلك في مختلف القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ القرار 3034 حتى تاريخنا.

ففي الوقت الذي أدانت هذه القرارات بصيغ مختلفة لكن متقاربة جميع أشكال الإرهاب الدولي، فإنها أكدت شرعية الكفاح المسلح لحركات التحرر الوطني، وواكب ذلك تنامي الاعتقاد عالمياً، وباستثناءات محدودة في شرعية العنف السياسي الذي تمارسه حركات التحرر ضد أهداف عسكرية للقوى المحتلة لأراضيها، بينما تصاعدت الدعوة إلى حجب هذه الشرعية عن هذا العنف عند التجاوز في ممارسته، عندما يمتد إلى أهداف مدنية، وبصفة أخصّ عندما تكون هذه الأهداف خارج الأرض المحتلة.

وبهذا التطور لم يعد الرأي العام العالمي، في معظمه، مستعداً لقبول الدعاوي التي تسعى لإدانة النضال الفلسطيني على سبيل المثال داخل الأراضي المحتلة، لكن هذا الاتجاه الغربي، الذي بدأ كما قلنا في تفهّم النضال الفلسطيني، ولو بشكل منقوص، ولايزال هشّاً للغاية في ظل الحملة (المكارثية) الأمريكية على ما يسمى (الإرهاب الدولي)، ورغم أن هذا التعبير أصبح مستخدماً على نطاق واسع، فليس ثمة اتفاق على معنى محدّد له.. ففي علم السياسي الغربي توجد له عشرات التعريفات، وقد أمكن تعداد أكثر من مئة تعريف لما يسمّى بالإرهاب الدولي في الآونة الأخيرة، ورغم ذلك فهناك عناصر رئيسية تندرج في العديد من هذه التعريفات، هي:

– أن الإرهاب عملٌ من أعمال العنف والتهديد به.

– أنه فعل رمزي في الأساس، أي يسعى لإحداث آثار وردود فعل كبيرة تتجاوز حجمه المحدود.

– أن آثاره تقتصر على المجال السياسي فقط، أي لا تمتد لإحداث أي تأثير على البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي يحدث فيها.

– أنه عمل لا وطن له، ولا يخضع للحدود الدولية، لأنه يقوم على مطاردة الخصوم في كل مكان على خريطة العالم.

لكن كل هذه التعريفات الصماء تضع كل العمليات التي تعتبرها إرهابية في سلة واحدة، ولا تعترف بالواقع الموضوعي الذي يرقب فروقاً جوهرية بين بعض هذه العمليات وبعضها الآخر، وبالتالي فهي لا تميز مثلاً بين الإرهاب الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني على يد الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال يتعرض له في الأراضي المحتلة وخارجها، وعمليات العنف الناجمة عن هذا الواقع المرير.. فكل هذه التعريفات تعجز عن التمييز بين نشاط يستهدف إبعاد شعب عن وطنه وقمع مقاومته الوطنية، ونشاط مضاد يقوم به أصحاب الأرض الأصليون ضد المغتصبين ووفقاً لها، ولا يكون ثمة فارق بين النشاط الإرهابي الذي مارسته الجماعات الفاشية من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر ضد الأهالي، وعمليات العنف المسلح التي قام به الشعب الجزائري ضد المستعمرين الفرنسيين، أو ما قامت به العصابات المسلحة مؤخراً في حمص، حيث ارتكبت مجزرة مروّعة ضد الأهالي الآمنين.

 

إرهاب الدولة

كما أن هذه التعريفات لا تنطبق على الإرهاب الحقيقي، أو الأكثر خطورة بمعنى أدق، وهو الإرهاب الرسمي أو إرهاب الدولة، وقد ظلت فكرة إرهاب الدولة موضع جدل وخلاف في اللجنة السادسة التابعة للأمم المتحدة، لما يزيد عن عقدين، فقد رفضت عديد من الدول الإقرار بوجود إرهاب الدولة، بحجة غياب أساس قانوني لهذه الفكرة في القانون الدولي، الذي يعرّف الدولة المعتدية لا الدولة الإرهابية، كما كانت التعريفات الغربية القاصرة للإرهاب سبباً في تعطيل إقرار فكرة إرهاب الدولة لوقت طويل.. لقد توصلت اللجنة السادسة بعد جهد كبير إلى مشروع لإدانة الإرهاب الذي تمارسه الدولة بهدف تقويض النظام السياسي والاجتماعي لدولة أخرى، وكذلك أعمال الإرهاب التي تقوم بها الدول الاستعمارية، وحظي هذا المشروع بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأصبح قراراً دولياً معبّراً عن وجهة نظر المجتمع الدولي.

وكان الكشف عن العمليات السرية الخطيرة التي تقوم بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في العالم الثالث عاملاً مهماً في إقرار فكرة إرهاب الدولة، فلم تعد هذه العمليات خافية على أحد، ولقد أثبتت كل الأحداث التي وقعت منذ حلول القرن الحادي والعشرين، أن إرهاب الدولة أكثر خطورة، وخصوصاً عندما يكون نابعاً من دولة عظمى، ومعتمداً على ترسانتها العسكرية المدججة بأحدث أدوات الدمار، فإذا كان ثمة ما يبرر العنف المسلح الصادر عن أفراد أو جماعات مظلومة، فليس هناك مجال للتسامح مع إرهاب الدولة التي يفترض أنها مسؤولة في المجتمع الدولي، وملتزمة بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً عندما يكون سلوكها الدولي هو المسؤول عن تعزيز الواقع الموضوعي الذي يفرض العنف الانتحاري الذي يطلق عليه (الإرهاب الدولي).

العدد 1105 - 01/5/2024