الاشتراكيّة والنظام العالمي الجديد

د. عدنان عويّد:

نحن لا ننكر ما للتجارب الاشتراكية من دور فاعل مارسته حكوماتها في فترة الحرب الباردة، وبخاصة في مجال إعادة تقسيم الثروة الوطنية بين أفراد المجتمع، والرغبة في إعادة الإنسان إلى مرجعيّته الإنسانية، هذا التقسيم للثروة الوطنيّة الذي مكّن الجماهير المسحوقة من الحصول على (بعض) حصتها من هذه الثروة، عن طريق مجانية التعليم والصحة وتأمين العمالة ودعم الكثير من حاجات الإنسان، وبخاصة المواد الغذائيّة والخدماتية من طرق مواصلات وتأمين للكهرباء ومياه الشرب النظيفة وغير ذلك، رغم كل حالات الخلل الوظيفي والأخلاقي التي برزت على الساحة اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً لحكومات هذه الأنظمة الاشتراكية، وذلك بسبب الكثير من المعوّقات التي حالت دون استمرار مسيرة التطبيق الاشتراكي في هذه الأنظمة، وبالتالي إمكانية تلافي الكثير من مواقع الخلل التي حصل هنا وهناك.

على العموم، إن هذه المعوّقات ذاتها هي التي كانت وراء سقوط المنظومة الاشتراكية، مثلما كانت أيضاً وراء ظهور النظام العالمي الجديد بكل إشكالاته، والتي يأتي في مقدمتها إعادة هيكلة النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي، بل وحتى الاجتماعي – إحياء المرجعيات التقليدية لمجتمعات دول العالم – بغية تفتيت هذه الدول وتذريرها خدمةً لمصالح قادة هذا النظام الذين مثّلتهم الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة العالميّة وشركاتها المتعددة الجنسيات.

إن قوة النظام العالمي الجديد في صيغته الرأسماليّة الاحتكاريّة المتوحشة، تكمن في رأيي الآن بمدى قدرة قادة هذا النظام على تحقيق توازن المصالح بينهم وبين الدولة الوطنيّة، بما تمثله قانونيّاً وأخلاقياً تجاه شعبها، فكلّ خلل في هذه المعادلة سيؤدي إلى نتائج سلبية لطرفي المعادلة معاً، هذا الخلل الذي كثيراً ما برز عبر تاريخ النظام الرأسمالي ممثلاً بالأزمات الاقتصاديّة التي تنتاب هذا النظام، والتي غالباً ما تكون نتائجها كارثيّة على الجميع، كما في أزمة الحربين العالميتين، والأزمة الأخيرة التي لم نزل نعيش نتائجها السيئة حتى اليوم بعد سقوط المنظومة الاشتراكيّة، والخلل في توازن هذه المصالح وما ينتج عنه من أزمات يكمن أساساً في جوهر قانون التركيب العضوي للرأسمال أثناء نشاط الرأسمال ذاته في مضمار اقتصاد السوق الحر، فهذا النشاط غير المعقلن، والذي تحركه المصالح الأنانيّة الضيقة الخاصة بالطبقة الرأسماليّة دائماً، يؤدّي إلى انزياح الثروة وتراكمها، وبالتالي تمركزها ومركزتها لمصلحة الطبقة الرأسماليّة، على حساب مصالح الجماهير عموماً، أما النتائج الوخيمة لعمل هذا القانون، فنجدها في توجه الرأسمال للعمل في المصافقات الماليّة، وتعميم التكنولوجيا التي لا تتطلب عمالة كبيرة، مثل تكنولوجيا المعلومات والفضاء، على حساب المؤسسات الإنتاجية التي تخدم المجتمع أكثر وتحقق لأفراده العمالة، الأمر الذي ساعد على تفاقم مسألة البطالة، وما ترتب عليها من أمراض اجتماعيّة، تبدأ بالجوع وحيونة الإنسان، وتنتهي بالجريمة المنظمة بكل ما تحمل الجريمة من دلالات، إضافة إلى نتائج أخرى ظهرت على الساحة العالمية بفعل هذا القانون، منها هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على اقتصاد السوق العالميّة مسخّرةً منظمات وصناديق مالية أخذت طابعاً دولياً، وتحت حماية دوليّة، كثيراً ما استغلتها الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الحاكمة لهذا النظام العالمي الجديد من أجل تمرير مصالحا على دول العالم، وإعادة هيكلة هذه الدول وفقاً لهذه المصالح، مثل منظمة الغات، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإعمار والتنمية وغيرها، إضافة إلى استغلال الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة ذاتها لإمكانيات الدولة القوميّة (الجيوش – التكنولوجيا العسكريّة – المواقف الدبلوماسيّة- ميزانية الدولة) من أجل تحقيق مصالحها، كما هو الحال الآن في أمريكا والغرب عبر حروبها الاستباقيّة ضد دول لا تشكل عليها أيّ خطر سوى أن لها مصالح فيها، ويأتي النفط في مقدمتها، أو تفتيت الدول المركزيّة في العالم الثالث تحت مظلة الديمقراطية وتشجيع المرجعيات التقليديّة في هذه الدول على الانفصال وخاصة العرقيّة منها، وإقامة دولها الصغيرة اللا شرعيّة، وغير ذلك من النتائج التي أصبحت معرفتها تشكل جزءاً من ثقافة أي مواطن في هذه المعمورة.

يظل السؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا هنا هو: هل سيستمر النظام الرأسمالي بكل صيغة، أو بصيغته الحاليّة التي أدت إلى النظام العالمي الجديد وما حمله لنا من أزمات، أهمّها الأزمة الاقتصاديّة التي يعيشها عالمنا المعاصر الآن، وما ترتّب عليها من تحطيم وإقصاء معظم قيم (الحداثة والتنوير) التي أنتجتها مرحلة الليبراليّة الكلاسيكيّة وفلاسفة عصر التنوير؟

في إجابتنا عن هذا السؤال، تكمن أيضاً الإجابة عن سؤال آخر وهو: هل بإمكان دول العالم الثالث، ومنها تلك الدول التي كانت تنهج الطريق الاشتراكي في التنمية، والتي راحت تلهث الآن وراء اقتصاد السوق الرأسماليّة الحرة، أو ما سُمّي باقتصاد السوق الاشتراكيّة، أن تتخلص من قبضة النظام العالمي الجديد؟

في الحقيقة هناك مقولة جاءت في مقدمة كتاب (نقد الاقتصاد السياسي) لماركس يقول فيها: (لكي ينتقل المجتمع من مرحلة قديمة إلى مرحلة جديدة، يجب على المرحلة القديمة أن تستوعب كل التطور اللاحق لقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ومن ثم من صلبها تولد المرحلة الجديدة.).

أعتقد أن مرحلة النظام الرأسمالي في صيغته الاحتكاريّة التي تسيطر على العالم الآن قد أخذت تستوعب القسم الأكبر من مكونات قوى الإنتاج وعلاقاته للنظام الرأسمالي في صيغته الحاليّة، وما الأزمة الاقتصاديّة والأخلاقيّة التي يعيشها العالم اليوم، وما ترتب عليها من نتائج سياسيّة واقتصاديّة سلبيّة على مستوى العالم، إلا دليلاً على أن مقومات النظام الرأسمالي قد وصلت إلى الحافات الأخيرة لانهيار هذا النظام. أما متى تكون النهاية، فهذه مسألة لا تدخل في نطاق التكهنات والضرب تحت الرمال، بقدر ما ترتبط بمعاناة من يقع عليهم ظلم هذا النظام، ودرجة وعيهم للتناقضات القائمة ما بين مصالحهم ومصالح قادة هذا النظام، هذه التناقضات التي ستحدد بالضرورة درجة الصراع وحدّته وطبيعته بين الطرفين، ثم درجة الوعي بطبيعته، ومعرفة آليّة عمله، وأين تكمن مقوّمات نهوضه وانهياره، ثم قوة تنظيم وإرادة هذه القوى المعنيّة بهذه المسألة، وهي هنا الشعوب المسحوقة والمغيّبة، وكل القوى الشريفة الممثلة للمشروع الإنساني وعدالته على مستوى العالم، وبخاصة من يخضع لسيطرة قادة هذا النظام في أمريكا وأوربا أولاً، ثم من هم في دول العالم الثالث ثانياً.

كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333d@gmail.com

 

العدد 1104 - 24/4/2024