لا أعشق الموتَ لكنّه سُلَّمي للحياةْ

عبد الرزاق دحنون:

جاء غلاف العدد 522 من مجلة الهدف الصادر يوم السبت 24 كانون الثاني (يناير) 1981 نصرةً لأهل غزة. الرسم على الغلاف (بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس)، على حدِّ تعبير الشاعر السوري رياض الصالح الحسين. أصبعان مرفوعان للأعلى يمثلان علامة النصر والعلم الفلسطيني، باقي الأصابع مضمومة في قبضة تمتزج لتشكل قنبلة يدوية، وتحتها كلمة غزة، كتبت بخط النسخ الجميل على خلفية بيضاء، في أعلى الرسم كلمة “الهدف” الحقيقة، كل الحقيقة للجماهير.

كلَّما رأيت هذا الغلاف من مجلة الهدف تخطر في وجداني قصيدة أحبها، وأقول عنها هي من أجمل القصائد التي قرأتها في حياتي، كتبها الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله وعنوانها (الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق)، فقد جاء في الإهداء: إلى جمال قبلان. مجدي أبو جامع. صبحي أبو جامع بركة. أبطال عملية عسقلان رفح. إلى مجدي وصبحي اللذين استُشهدا تحت هراوات الجيش الصهيوني بعد أسرهما.

وكانت هذه القصيدة قد نُشرت أولاً في مجلة الهدف، وقرأتها مرات ومرات للرفاق في مدينة إدلب. لا أذكر رقم العدد ولا تاريخ صدورها الآن، لأن أعداد مجلة الهدف بقيت في مكتبتي في الشمال الغربي من سورية. ثمَّ طبعت في ديوان شعر صادر عن دار الشروق عام 1994.

 

غلاف مجلة الهدف هذا ومقاطع من قصيدة إبراهيم نصر الله حملتهما معي على (فلاشة) كمبيوتر إلى ديار أخرى علَّقنا أحلامنا على مشاجبها، وتركنا بسقوف بيوتنا في شمال الشام، بصلاً، وبامية، ورماناً، وتيناً يابساً، وثوماً للشتاء، تركنا حليباً في أَضرع ماعزنا، وتركنا رفَّ حمامنا المنزليّ بلا ماء، وتركنا الطائرات الحربية تُحلّق في الأجواء، وأعطينا لزغب القطا طوق النجاة، ثمَّ عبرنا جسر الموت إلى الحياة.

 

مقاطع من قصيدة الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق:

هادئٌ بحرُ غزةَ

ماءٌ وأشرعةٌ

زرقةٌ وصباحٌ عريضٌ

ونافذةٌ للنوارسِ أو جدولٌ في الوريدْ

 

هادئٌ بحر غزةَ

لي رغبةٌ: أن أرى وجهَ أُمي ومدرستي

وأن أقفَ الآنَ في الصفِّ طفلاً

وأُطلقَ في البرّ خيلَ النشيدْ

وبي رغبةٌ

أن أمرّ على وردةٍ في الجوارِ

أُسرُّ لها أن أرضَ المخيمِ حقلٌ

وهذا الرحيلُ البعيدْ

لستُ أمضي إلى الموتِ مبتسماً

بينَ هذي الرصاصةِ والشمسِ أرفعُ أُغنيةً

رايةً للحياةْ

أُحبُّ الصغارَ كثيراً

وإن لمْ أكنْ ذاتَ يومٍ هناكَ صغيراً يلاحقُ سرّ الأعاصيرِ

والموجِ حينَ تثورُ المياهْ

كلُّ أسئلتي انتشرتْ فيّ موجاً

فقدْ يبسَ الغصنُ

لكنّ أسئلتي اكتملتْ

واستوتْ برتقالاً

وأغنيتي تعرفُ الدربَ للحبِّ

تعجبُ؟

لا بأسَ

لكنني أعرفُ البحرَ منذُ صباه

طاعنٌ في الزغاريد والعرسِ والشمسِ

هذا أنا وجبينٌ إلهْ

لا أقول لكَ الآنَ إني سأمضي إلى الموتِ

لا أعشق الموتَ

لكنه سُلَّمي للحياةْ

 

هادئٌ بحرُ غزةَ

هذا الصباحُ أليفٌ وأطيبُ مما شربناهُ

لا وردَ في الطرقاتِ

أجلْ

ولكنّ وردتَنا الأغنياتْ

وهنا باعةُ السمكِ

الطالباتُ

الحوانيتُ

آخرُ فصل الشتاءْ

صِبْيَةٌ يحبسونَ النوارس في الدفترِ المدرسيِّ

ويندفعونَ طيوراً إلى الماءْ

فأسٌ على كتفٍ

عنبٌ في الشفاهِ

وأشرعةٌ

حين تعلو ستسألُ

هل أبصرُ الآنَ أشرعةً

أم سماءْ؟

حناجرُ مُخْضَرَّةٌ وخضارٌ

حقولٌ تجيءُ إلى السوقِ ناضجةً بالغناءْ

 

هادئٌ بحرُ غزةَ

هذي البيوتُ التي تسكنُ الروحَ تشبهني

خطوةُ الضوءِ ألفتُهُ

وضجيجُ المحطاتِ يشبهني

غيمةٌ تحملُ الأرضَ حتى النجومِ

وبيارةُ البرتقالِ الحدائقُ

تشبهني

حزنُ جدّي حكاياتُهُ ويداهُ

عروقُ أبي

وجهُ أمي الحبيبُ

خيولُ المعاركِ

تشبهني

جارتي جارُنا

طفلُهما حينما اختطفتْهُ الرصاصةُ من عندليبِ البراءةِ

أُبصرهُ كلّ يومٍ على بابِ مدرسةٍ

عابراً زمني

وهو يشبهني

كلُّ ما يتجمَّعُ حولي وفيَّ

سمائي التي ظلَّلتْ وطني

 

هادئٌ بحرُ غزةَ

هلْ جهّزتْ أُمُّكَ الزادَ

نصفَ رغيفِ وعشرينَ زيتونةً برتقالهْ

فالطريقُ طويلٌ إلى عسقلان

ركضتْ تحتَ سقفينِ

دارتْ هنالكَ في الحوشِ

سبعونَ عاماً

ولمّا تزلْ طفلةً كغزالهْ

قُلتُ يا أُمُّ: ها عسقلانُ هنا

وهي أقرب من بابنا

لا عليكَ إذاً لا عليكْ

واسمع الآنَ ما سأقول:

إذا كَـثُرَ الجنُدُ كنْ يا صغيري قوياً

وكنْ مثلَ نهدي الذي أرضعكْ

ومثل حليبـي الذي جفّ من زمنٍ طيّباً

ولا ترتبكْ

إن قلبي معكْ

وخبئ سلاحكَ

لا شيء أجمل منكَ سوى وردةٍ زَيّنَتْ مدفعَكْ

لا تطلق النارَ يا ولدي باتجاه الشجرْ

فهي أشجارُنا

وإذ تطلق النارَ حاذرْ إذن أن تصيبَ صغيراً

فإنّك ما زلتَ في عين أُمكَ تعدو على طرقاتِ الصِّـغرْ

ربما غيّرتكَ الحروبُ

أجلْ

ولكنني أذكرُ الآنَ أنّك لم تكُ يوماً تحبُّ الدماءَ

وكسّرتَ مدفعكَ الخشبيّ مراراً هنا أو هنا

فوقَ هذا الحجرْ

وكنتَ صديقَ البراعمِ

حتى إذا ما أتى الصيفُ صرت حبيبَ الثمرْ

أرضُ غزةَ يا ولدي وجهُنا

ومن طينها ندهنُ الخدَّ كي يتوردَ يا ولدي

ونباهي القمر

هل تجهّزتَ؟

آهِ

تقولُ تأخرتَ

لا تتأخرْ كثيراً عليّ

سأعجنُ أغسلُ صحنَ العجينِ وبعضَ الثيابِ

ثيابَكَ

أخبزُ

يا ولدي

مثلَ كلّ نهارٍ

وحينَ يجيءُ المساءُ

سأتركُ قلبي على عتبةِ الدارِ عيناً

وأُغنيةً تنتظرْ

فكنْ مثلَ نهدي الذي أرضعكْ

ومثلَ حليبـي الذي جفّ من زمنٍ طيباً

ولا ترتبكْ

إن قلبي معكْ

 

أوصيكَ يا ولدي دائماً:

حين تمتدّ أرضُ السواحل عاريةً

أو يكثرُ الجندُ حولكَ

كنْ في امتدادِ السهولِ جبلْ

وكنْ أنت دولتكَ العاليةْ

حين تسقطُ خلفكَ كلّ الدّولْ

العدد 1132 - 13/11/2024