تجلّيات العنف في المجتمع

إيمان أحمد ونوس:

مارس البشر العنف منذ بدء الخليقة، وتُعتبر حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل النواة الأولى لتبني الإنسان مفهوم العنف وسيلة إمّا للدفاع عن النفس أو الممتلكات، أو حتى المعتقدات ووجهات النظر، وإمّا للسطو والسيطرة على ممتلكات الآخرين أو فرض وجهات نظر وسياسات معيّنة عليهم. وهو يتجه دوماً من القوي باتجاه الضعيف الذي قد يكون فرداً أو منظمات أو دولاً.

يُعرّف العنف بشكل عام على أنه الاستخدام المقصود أو غير المقصود للقوة أو التهديد بها ضدّ الآخرين، مما يؤدّي إلى الأذى الدائم أو المؤقت أو المميت. ولهذا الأذى اتجاهات متعددة قد تكون نفسية أو جسدية أو معنوية. كما تساهم أكثر من جهة في تبني منظومة العنف في حياة الإنسان- بشكل مباشر أو غير مباشر- ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بالمجتمع على مختلف هيئاته وتنظيماته. ولنرَ كيف يتمثّل الإنسان مفهوم العنف ثقافةً طبيعية في الحياة عبر مراحل نموّه وتربيته وعلاقاته الاجتماعية.

أولاً- دور الأسرة:  فللأسرة التي تُمثّل الصورة المُصغّرة عن القبيلة أو العشيرة التي تسود المجتمعات العربية والشرقية دورٌ أساسيّ وهامّ في نشأة العنف وتعزيزه في حياة الفرد من خلال أساليب التربية التي ينتهجها الأبوان اللذان إذا ما تمثّلا ثقافة السلطة والاستبداد والعنف والتمييز خلال تربيتهما لأولادهما، ستكون هناك سلطات استبدادية تراتبية في الأسرة ابتداءً من الأب تجاه الأم والأولاد وانتهاءً بالأخ الأكبر وسلطته على الأصغر والأنثى حتى لو كانت أكبر(سيادة مفهوم العنف والتمييز ضدّ المرأة)، وهذا ما يخلق أفراداً سلطويين استبداديين وعنيفين في المجتمع يمارسون الممارسات ذات التي كانوا يُعانون منها في أُسرهم سابقاً.

أمّا حينما يتمثّل الأبوان ثقافة المحبة والمودة واحترام الآخر، وبالتالي اتباع أساليب تربوية عصرية قائمة على الحرية والفهم والتفاهم، سيكون لدينا بلا شكّ أفراد متوازنون في علاقاتهم بالآخرين من حيث اكتساب ثقافة اللاعنف والتأكيد عليها خلال العلاقات المتبادلة بين الفرد والمجتمع، أي أفراد طبيعيين فاعلين في الحياة ومُتعايشين مع المجتمع بروح المسؤولية والعطاء.

ثانياً- دور المدرسة: تُعتبر المدرسة العالم الثاني للطفل خلال مراحل نموه واكتسابه المعرفة وثقافة المجتمع، على اعتبار أنها المكان الآخر بعد الأسرة الذي يغرس في شخصية الطفل مفاهيم وقيماً وأخلاقيات معيّنة. فإذا ما كانت تلك المدرسة بإدارتها وكادرها التعليمي والتربوي قائمة على التسلّط والقسوة والعنف، لاسيما حين تُعزّز بشكل مباشر سلطوية واستبدادية التربية الأسرية وتكون استمراراً لها في نظر الطفل، فسيتمثّل تلك السلطوية والعنف بشكل غير مباشر، ونكون مستقبلاً أمام أجيال متلاحقة تتبنّى منظومة تفكير وتعامل سلطوية- عنفية.

ثالثاً- دور السلطة الدينية: باعتبار الدين العصب الأساسي والحسّاس في حياة الإنسان، فإن لتلك السلطة الأثر الكبير في خلق ثقافة الاستبداد والعنف أو إلغائها، ولأن رجال الدين يمتلكون الحق في توجيه الفرد بأي اتجاه، وما عليه سوى التنفيذ دون أي نقاش أو حوار أو اختلاف، فإنهم بذلك يسعون جاهدين لتقييد وتحجيم فكر الإنسان ضمن أطر دينية محدودة تعتبر أن هذا الدين أو تلك الطائفة هي الأفضل على الإطلاق، وبأنها المثل الأعلى في المجتمع، وكل ما عدا ذلك مرفوض وربما كفر وإلحاد، ولأن مخالفة رجال الدين وتعاليمهم تُعتبر الخطيئة الكبرى التي قد تدخل في مفهوم التكفير للتابعين أنفسهم، فإن هذه السلطة تغرس في نفوس تابعيها ثقافة التطرّف، وبالتالي تبني مفهوم رفض الآخر مهما كان قريباً، وتبني منظومة عنفيه ضدّه في وقت ما إن استدعت الظروف ذلك. وللأسف هذا ما هو حاصل اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية ما أدى إلى تشتيت المجتمع وجهوده التي يجب أن تتجه نحو تطوير الفرد والتعايش بين الجميع على أساس المواطنة دون النظر إلى الاعتبارات والانتماءات الأخرى.

رابعاً- دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني: تجتذب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني شرائح واسعة من الشباب الطامح للحرية والقيم المثالية التي تتفق وشعارات ومبادئ تلك الأحزاب والمنظمات التي يتوقع الشباب أنهم من خلالها قادرون على تحقيق ما حرمتهم منها السلطة الأبوية- الأسرية والعشائرية والدينية، غير آخذين بعين الاعتبار أن تلك الأحزاب والمنظمات المدنية ما هي إلاّ صورة مصغّرة عن المجتمع الموجودة فيه بشكل عام، لأن القيّمين عليها هم من أبناء المجتمع نفسه، وبالتالي لا يمكنهم إلاّ أن يحملوا سماته وثقافته التي تشرّبوها بشكل مباشر أو غير مباشر، بغضِّ النظر عن القيم السياسية والفكرية التي يتبنّونها مهما كانت تحمل ملامح الديمقراطية والعدالة والمساواة، إضافة إلى أن معظم هذه الأحزاب تتخذ من المركزية والشمولية نهجاً عاماً لا تحيد عنه، مُعزّزة تقديس القائد باعتباره المُلهم والمُفكّر الأوحد في هذه الأحزاب والتنظيمات التي تُلغي بذلك دور وتأثير الأفراد الموجودين في بوتقتها، وهذا ما يجعلها رافداً آخر من روافد الإقصاء والتعصّب والسلطوية الاستبدادية بشكل مباشر أو غير مباشر، ممّا يمكن اعتباره شكلاً من أشكال تقييد وتهميش حرية الفرد وفكره، وشكلاً من ممارسة العنف غير المرئي أو الملموس في حياة الأفراد.

خامساً- دور الأنظمة والسلطات السياسية:  بالطبع تتكوّن النظم الحاكمة من أبناء المجتمع، وبالتالي لا بدّ أن تحمل سماته ومنظومة قيمه ومفاهيمه بكل أبعادها، فهي من خلال أجهزتها وقنواتها تنتهج على الدوام نهجاً قائماً على إبقاء المجتمع في حالة من الخمول الفكري والعطالة السياسية من أجل الحفاظ على مواقعها ومكتسباتها التي تعتبرها حقاً إلهياً ربما لا يجوز لأحد التفكير في معارضته أو حتى توجيه النقد في أدنى حدوده، وذلك من خلال خطاب سياسي يرمي إلى تصوير الشعب على أنه مصدر السلطات والتشريعات، وأن له الحق في الحياة الكريمة الحرّة، في الوقت الذي تسود فيه الاعتقالات وكمِّ الأفواه ضدّ المناوئين لتلك الأنظمة، أو حتى ضدّ الذين يسعون للتغيير من خلال قوانين وتشريعات تضمن حقوق جميع الأفراد عبر دساتير ديمقراطية- تعددية. وهذا بالطبع ما يُبقي على أفراد المجتمع أو الشعب أفراداً تابعين يُعشّش الخوف في أنفاسهم كيفما تحركوا خشية استبداد وعنف تلك الأنظمة، وهذا يخلق حتى بين المعارضة أشخاصاً إما تابعين أو خانعين، وإما سلطويين استبداديين يرفضون الرأي الآخر ويكفرونه أو يخونونه. وطبعاً يتمُّ كل هذا من خلال وضع دساتير وسن تشريعات وقوانين تتوافق ومصالح تلك الأنظمة بعيداً عن أيّ شكل من أشكال دولة المواطنة والقانون، وبعيداً عن كرامة وحرية المواطن والمجتمع.

بعد كل هذا، هل يحق لنا أن نتساءل لماذا يسود العنف مجتمعاتنا اليوم!!؟

العدد 1104 - 24/4/2024