الولايات المتحدة ومؤسسات «المجتمع الدولي»

 تدّعي الولايات المتحدة الأمريكية أنها الدولة الوحيدة في العالم المسؤولة عن نشر قيم الحرية والديمقراطية، لذا فهي تقع في تناقض واضح بين القول والفعل، ومع ذلك فهي تلجأ إلى ممارسة كل الأساليب القمعية والعنيفة وغير المشروعة، باعتبارها المدافعة عن السلام والاستقرار، والداعية للحق والحريات وسيادة القانون، يساعدها في ذلك كل من بريطانيا وفرنسا، وبناء على هذه السياسة المخزية هاجمت العديد من الدول الضعيفة التي ترفض الخضوع لهذه السياسة، بهدف معلَن هو احترام حقوق الإنسان والديمقراطية، الذي يتيح لها التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، متسلحة بأن لها الحق، باعتبارها العنصر الرئيسي في (المجتمع الدولي)، ومعتمدة على شبكة واسعة ومتكاملة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بدءاً من منظمة الأمم المتحدة إلى حلف شمال الأطلسي، مروراً بالاتحاد الأوربي، والمؤسسات المالية، والكومنولث، والفرانكفونية، والمنظمات غير الحكومية، ومجموعات الضغط، التي تغذى في كل أرجاء العالم.

وبغياب الاتحاد السوفييتي عن المسرح الدولي وانتهاج الولايات المتحدة السياسة القطبية الأحادية، برزت فكرة إدارة العالم تجري بالاعتماد على خدعة (المجتمع الدولي) الذي يسير خلف أسياد العالم، كما لو أن الثلاثة الكبار (أمريكا وبريطانيا وفرنسا) هم الذين يملكون إحكام الحق باسم القيم الكونية التي لطالما ادعى الغرب نفسه أنه يجسدها، ووجدوا سهولة بإشراك بعض الدول كالمملكة العربية السعودية وتركيا وبعض دول الخليج، وكان الهدف من هذا الإشراك هو الجمع بين المترددين والمدمنين على الدفاع عن مبدأ السيادة وعدم التدخل، والمتمردين على النظام الغربي بممارسة الضغوط عليهم، وعملوا على زيادة أصوات (المجتمع الدولي) في الجمعية العامة والمجلس الأعلى لحقوق الإنسان وأحياناً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاعتماد على المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة كمنصّة انطلاق لنشر مفاهيمها، كالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والمجلس الأعلى لحقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة التغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية، وتقع مقرات كل هذه المنظمات في العواصم الغربية، وتشغل آلافاً من الموظفين، وغالباً ما يتم تأطيرها في خدمة الإيديولوجيا المسيطرة، ولا يمكن أن نغفل دول المنظمات غير الحكومية التي تحمل المقاصد السياسية الخفية، والتي تعتبر جزءاً من الآلية التي يستخدمها (المجتمع الدولي) لجمع المعلومات والتسلل إلى الدول الضعيفة التي تصلح للتدخل فيها إنسانياً، وتأطير السكان المدنيين، وتمهد الطريق المؤدية إلى العمل العسكري، وكانت الكثير من هذه الدول تنظر بعين الريبة والشك إلى وجود المنظمات غير الحكومية، لكنها كانت تذعن في كل مرة جرى فيها تدويل المسألة لمحاولة إحلال الاستقرار إثر أزمة أو نزاع من جنوب السودان إلى دارفور، ومن العراق إلى الصومال أو أفغانستان، واستطاعت هذه المنظمات أن تلعب دوراً مزعوماً لاستقرار الدول الهشة عن طريق الحروب أو الفتن، ومن هذه المنظمات غير الحكومية منظمة (أطباء بلا حدود) الفرنسية ودورها في نيجيريا، والخوذ البيضاء البريطانية في سورية، ومنظمة العفو الدولية أو مرصد حقوق الإنسان (مرصد حقوق الإنسان الذي يديره رامي عبد الرحمن في الأزمة السورية مثالاً). وتشكل الوكالات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الحكومية وشبكتها التي أشرنا إليها هي نفسها أداة إشعاع الأجهزة ومكاتب المخابرات التابعة للولايات المتحدة، شبكة بشرية وسياسية وإعلامية تضع نفسها تلقائياً في خدمة استراتيجية الهيمنة الأمريكية، ولا ننسى دور كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كأداة مالية في اليد الأمريكية، وكذلك منظمة التجارة العالمية رمز العولمة، وهي خادم أمين للولايات المتحدة التي أوجدت وصفات لخطط التقشف تحت شعار إعادة تنظيم التنافس التجاري وتحسين وتزاوج بين النصائح والعقوبات التي تفرضها على الدول، ولا يمكن لـ(المجتمع الدولي) أن يمارس دوره (في نشر الخير على العالم) من دون أن توجد محكمة خاصة بالخيانات الدولية، ومحاكمة الدول المارقة، أو رؤساء الدول المارقين لتكون رائدة في مجال الدفاع عن العدالة الدولية وفي خدمة (المجتمع الدولي) المختطف من الدول العظمى الثلاث الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ولم يكن بعيداً عن ذهن هذه الدول التوصل إلى إطلاق اسم (الإعلام العالمي) المؤلف من الصحف والإذاعات والتلفزيونات ووكالات الأنباء، وكلها أمريكية أو أوربية، تبث نظريات إمبراطورية الظلام بلا كلل أو ملل على الموجات الطويلة، وباللغة الإنكليزية، أما وسائل إعلام المجتمعات البشرية الأخرى فتتعامل معها بعجرفة واحتقار وحجب، ووصفها بأنها استبدادية أو متخلفة، يستثنى منها بعض القنوات العربية التي تحولت فجأة إلى وسائل إعلام يركن لمصداقيتها كقنوات الجزيرة القطرية والعربية السعودية التي تبث صوراً وخطابات تناسب تماماً الخطاب الغربي وتبيع الرأي العام بضاعة فاسدة.

إن مراكز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية الأمريكية وفي الوقت الذي برز فيه مفهوم (المجتمع الدولي) أنتجت هذه المراكز مجموعة من المفاهيم والمصطلحات التي أطلقتها على العالم الفقير مفاهيم مثل الدول الهشة، والدول المارقة، والدول الفاشلة.. إلخ، وقد دخلت هذه المفاهيم مع مرور الوقت في المصطلح السياسي والإعلامي الغربي لتصبح هذه الدول بالمفهوم الغربي مصدر تهديد لاستقرار (المجتمع الدولي)، وملجأ لكل مثيري الشغب والاضطرابات وأعوان محور الشر، وتتحول إلى أرض خصبة للجريمة والتجارة غير المشروعة للأسلحة وتهريب وتجارة المخدرات، مما يعطي الدول العظمى الحق بالتدخل في شؤون الدول الأخرى استناداً إلى مبدأ التدخل والحماية، هذا المصطلح السياسي الذي جرى العمل على تطبيقه منذ بداية هذا القرن بالتدخل في شؤون الدول الأخرى تحت ذرائع إنسانية وأحادية الجانب بعيداً عن المنظمة الدولية، والذي لم يكن سائداً من قبل وتنبعث منه رائحة الاستعمار الجديد، كما حصل في النيجر ويوغسلافيا وتمزيقها، وتدمير العراق، وتقطيع أوصال الصومال، وتقسيم السودان، مخالفة بذلك المبدأين الأساسيين في العلاقات الدولية، وهما: سيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومتجاوزة المنظمة الدولية ومجلس الأمن دون الحصول على موافقة منهما.

في السنوات التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي، عملت الدول العظمى (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) على تصنيع وتأمين (مجتمع دولي) على مقاس هذه الدول من أجل تمرير سياساتها ومصالحها، ويصعب على هذه الدول القبول بأي دولة أن تقف في مواجهتها، ولكن بعد مرور ما يزيد عن العشرين عاماً على هذا البناء، بدأت تتشكل جبهة من الدول الناشئة كدول بريكس والدول المعادية لسياسة الغطرسة الغربية كإيران وسورية والعراق ما بعد الغزو الأمريكي، وكذلك دول أخرى كالجزائر ودول أمريكا اللاتينية، وبدأ الاتحاد الروسي يعود إلى المسرح السياسي الدولي بقوة في محاولة منه تفعيل القانون الدولي (التدخل في الأزمة السورية) المخترق من قبل الدول العظمى، والاهتمام بالسلام العالمي، والعمل على تأسيس نظام دولي جديد ينهي معه القطبية الأحادية، وبناء مجتمع دولي متعدد الأقطاب تحترم فيه الحريات والحقوق العامة لكل المجتمعات الإنسانية وإحلال مبدأ سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أساساً للعلاقات الدولية تحت سقف القانون الدولي وتجديد وتطوير عمل هيئة الأمم المتحدة.

العدد 1107 - 22/5/2024