السلام.. تلك الكلمة الجميلة.. ذلك الحلم الموؤد

حسين خليفة:

(المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة) (إنجيل لوقا 2 ـ 14).

(فاصفح عنهم وقل سلامٌ فسوف يعلمون) (قرآن كريم، سورة الزخرف، الآية 89).

السلام لغةً مصدر يفيد الأمان والنجاة ممّا لا يُرغَب فيه، وهو أكثر كلمة تتردّد على الألسن وفي الكتابات والرسائل والأدب والفن، لكنه بعيد بالقدر نفسه عن التحقّق كما لو أنه حلم البشرية منذ بدايات الخلق.

السلام نقيض الحرب والعنف والأذى والأوبئة والكوارث، لذلك فإن تحقيقه ولو جزئياً ظلَّ محطَّ أنظار الناس المسالمين بطبعهم إلاَّ حين تسيطر عليهم أطماعهم وتبدأ غريزة العدوان والقوة تستفيق عندهم بتملّك ما يرغبون فيه ولو بالقوة، ولو كان على حساب حقوق الآخرين، وهو ما يُفضي الى الحروب والعنف.

تاريخ البشرية هو تاريخ حروب للأسف، بدأت مع تشكّل الثروة والصراع عليها حتى يومنا هذا، وما الأديان والإيديولوجيات والشعارات التي خيضت الحروب باسمها وتحت لوائها إلّا قشوراً تغطّي السبب الحقيقي للحروب، وهو الطمع والجشع والرغبة في الاستيلاء على المزيد من الثروات على حساب الآخرين أفراداً وأمماً.

كل حرب انتهت كما ستنتهي حروب البشر الآن، لكن إلى حين، إنها أقرب إلى فترات هدنة تلتقط فيها الأطراف أنفاسها وتعيد النظر بقيمها وقوانينها التي تسرّبت الحرب من بين كلماتها لتجد مبرراً لها ومسوّغاً لتجنيد البشر ضدَّ بعضهم ونشر الخراب والموت.

لن نعود بعيداً، فقد عاشت البشرية بعد آلاف الحروب والغزوات عبر التاريخ حربين عالميتين، الأولى عام 1914 والثانية عام 1939 سقط فيهما ملايين القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعاقين، ودُمِّر العمران والزرع والبنى التحتية للصناعة والحياة، بل إن الحرب الكونية الثانية شهدت استخدام الولايات المتحدة الأمريكية أقذر سلاح اخترعته البشرية، سلاح فنائها، وهو السلاح النووي ضدَّ مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وخلّفت أضراراً كارثية يعرفها الجميع، وتركت آثاراً يندى لها جبين البشرية.

ماذا فعلت البشرية بعد هاتين الحربين؟

بعد الحرب الأولى تأسّست عصبة الأمم لمحاولة حلّ النزاعات بين الدول والشعوب بالطرق السلمية وتفادي حروب كارثية لاحقة، لكن الدول نفسها التي أنشأت عصبة الأمم ووضعت ميثاقها دخلت في حرب أقسى وأمرّ بعد عقدين فقط من تأسيسها.

وما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 حتى التفتت الدول إلى الوضع الكارثي وقررت تأسيس منظمة عالمية هدفها الأساسي منع تكرار ما حدث، فكانت هيئة الأمم المتحدة وما تبعها من منظمات هدفت أساساً الى حماية الإنسان وتطوره ورفاهيته.

وكان أمل البشرية كبيراً في أن تكون هذه خاتمة الحروب والاحتلالات والعنف.

لكن، ها هو ذا العنف يلفُّ العالم من أقصاه الى أقصاه، وما زالت جيوب احتلالات استعمارية واستيطانية قائمة خصوصاً في فلسطين، حيث تُصرُّ الدولة المحتلة إسرائيل على استمرار احتلالها واستيطانها وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية رغم قرارات الأمم المتحدة التي تنصُّ صراحة على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وترفض قرارات الأمم المتحدة أيضاً ضمَّ الجولان السوري المحتل، لكن دون جدوى، لأن من يقف خلف المحتل الإسرائيلي هو من يحكم العالم الآن بلغة القوة وإن تغطّى بكلمات القانون الدولي وحقوق الإنسان، إضافة إلى ضعف وتهاون من جانب الشعوب العربية وحكّامها في إعادة الحق الى أصحابه مقابل التمسّك بعروشهم وكراسي الحكم فيها مع المتاجرة بالقضية الفلسطينية لاستمرار التحكّم بشعوبها ونهب ثرواتها كما أي احتلال.

الحروب الأخطر التي تُهدّد العالم الآن هي الحروب الداخلية، ونمو ظاهرة الإرهاب الذي تقف خلفه قوى عاتية وتستخدمه لعبة لتنفيذ سياساتها وأجنداتها ثم تقضي عليه لتستولد غيره.

إن حلم السلام قابل للتحقّق فقط حين تحكم البشرية قوى وأنظمة تضع مصلحة سكان الأرض قاطبة في أجنداتها، وتؤمن بالمساواة وحقوق الإنسان في الحياة والحرية، وهو حلمٌ بعيد المنال للأسف.

وحتى يتحقّق هذا الحلم، على الناس في بقاع الأرض كلها أن يتّحدوا في مواجهة وحش الرأسمال المنفلت من عقاله، لا لبناء دكتاتوريات جديدة تجعلنا نرى الرأسمالية جنّة ونهرب إليها من هذه الدكتاتوريات التي تدّعي العداء للرأسمالية والامبريالية، وتمارس ما هو أشنع منها حروباً واستغلالاً وانتهاكاً لحقوق الإنسان والقيم الإنسانية، بل لبناء عالم جديد يكون فيه الإنسان أعلى وأغلى قيمة، وذلك يبدأ بقيام أنظمة ديمقراطية تحترم التعدّد والاختلاف، وتتجاوز الإيديولوجيات البائدة التي تلغي الآخر وتسلبه حقّه في التعبير والحياة، وتحترم القوانين وتُطوّرها بشكل دائم باتجاهات أكثر إنسانية تحقّق المساواة بين الأفراد والشعوب وإشراكها في الثروة والقرار.

هذه الأنظمة ستكون أكثر حرصاً من دكتاتوريات الشعارات والصراخ والحروب على المصالح الوطنية لشعوبها، وعلى السيادة والاستقلال، وستوظّف مقدرات بلدانها لتحقيق التنمية والسلام داخل كل بلد، وفي العالم أجمع، ليفرض التطور التاريخي نفسه باتجاه عالم أكثر عدالة، لأن العدالة مطلب الناس جميعاً، والاحتكام لقوانين المجتمع الدولي التي تتطور باستمرار لتحقيق المزيد من استقرار الإنسان وسعادته، بحكم كون الشعوب هي صانعة القرار في هذه الأنظمة الديمقراطية.

ما أورده هنا تثبته حروب القرن الحادي والعشرين التي يبدو واضحاً أن سببها ومُشعلها دائماً أنظمة استبدادية أو منظمات تعيش على إيديولوجيات الماضي التي تُمجّد الحروب والقتل.

لهذا لا يوجد حل آني وسريع لأوجاع البشرية نتيجة حروبها، بل يمكن أن نؤسّس للحل بنضال البشرية من أجل السلام والديمقراطية، ودعم الشعوب المحكومة بأنظمة مُستبدّة للشروع بإقامة أنظمة ديمقراطية يكون التفاهم بينها ممكناً حتى في حالات الاختلاف، لأنها تضع مصالح شعوبها وشعوب الأرض في الحسبان قبل اتخاذ أي قرار.

حينئذٍ يمكن للبشرية بأغلبيتها المعادية للاستغلال والعنف أن تلجم وحش رأس المال باتجاه صياغة نظام عالمي أكثر عدالة، وربما الوصول إلى يوتوبيا المساواة المطلقة التي بشّر بها منظرو الاشتراكية وفلاسفتها.

العدد 1104 - 24/4/2024