رأفةً بالتجار!

د. أحمد ديركي:

أينما توجهت في هذا العالم يمكن أن ترى أن هناك شيئاً ما غير صحيح. وكلما دخلت في علاقات اجتماعية مع الآخرين تجد المزيد من الأزمات المتفاقمة وغير المرئية.

تُرى لماذا يعاني العالم، وتحديداً سكانه، أزمات متعددة؟ حدّدت الأزمة أو الأزمات بسكان العالم، مع العلم أن ليس البشر فقط من يعيشون أزمة، بل النظام الطبيعي للأرض أيضاً يعيش أزمة، أو أزمات.

أتى التحديد بالبشر لأنهم فقط هم النوع الوحيد الذي يمكن أن يطلق عليه صفة الكائن الواعي. فتشكلات الوعي غير موجودة لا في عالم الحيوان ولا في عالم النبات. فهل تكمن الأزمة في مسألة الوعي، تلك الصفة البشرية التي تعي واقعها؟ وإن كان البشر يعون واقعهم، ويعون أزماتهم، فلماذا لا يعملون على حلها؟ فوعي الأمور يعني فهمها وإدراكها بالشكل الصحيح، من دون أي تشويش لا واقعي.

وقد يكون السؤال الأساسي ما سبب الأزمة، أو الأزمات؟ فعند وعي السبب يمكن علاجه، ولكن في كثير من الأحيان حتى عند معرفة السبب يصعب الحل. الصعوبة تأتي من تعقد الأزمة وتفاقمها، عند عدم البدء في معالجتها في بدايتها. ومع مرور الوقت تصبح الأزمة أكثر تعقيداً وتتحول إلى أزمات متشابكة تعمل كل منها على تغذية الأخرى.

كما هو واضح، الإنسان مصدر الأزمات، سواء على المستوى البشري أم على مستوى الطبيعة. فالإنسان ذاك الكائن العامل على محاولة تحسين رفاهيته وتطويرها من دون الأخذ بعين الاعتبار الإنسان الآخر الموجود معه على هذه الكرة الأرضية. إلا أن هذه الفكرة لم تأتِ من عدم، بل نبتت مع بدايات تشكل فكرة الملكية الخاصة، ووصلت هذه الفكرة إلى صيغتها شبه المتكاملة مع النظام الرأسمالي.

هذا جوهر الأزمة، فالنظام الرأسمالي طور مفاهيم متعددة الأبعاد لتشويه الوعي البشري، وتحويله من وعي بشري يعمل على خدمة البشر ورفاهيتهم، إلى وعي مشوه يعمل على خدمة طبقة محددة، الطبقة البرجوازية، ورفاهيتها. وكما يبدو فقد نجح هذا النظام الرأسمالي في مساعيه التشويهية، رغم تعثره في بعض الأحيان، وبخاصة عند ظهور الفكر الماركسي، الذي تطور وأصبح لاحقاً ماركسياً – لينينياً، وتمكن من تأسيس دولة استطاعت إلى هذا الحد أو ذاك مواجهة النظام الرأسمالي. لكن بعد تفككها عاد النظام الرأسمالي إلى الهيمنة واستعادة سيطرته على الوعي البشري، فخلق أزماته، كالمعتاد، ويعمل حالياً على تأزيم الأزمات الفرعية محاولاً إقناع الجميع أن هذ الأزمات والتأزيمات ما هي إلا مجرد صناعة (العقل) البشري غير المتناسق مع النظام الرأسمالي. وقد انجر الكثير والكثير من الأحزاب السياسية، والبشر إلى هذه القناعة المشوّهة.

قناعة مشوّهة تلقي اللوم على البشر وتبرِّئ الأنظمة السياسية وحلفاءها الطبقة البرجوازية، ومن هذه التشويهات مثلاً: لومُ (التجار) على أزمة اقتصادية وارتفاع الأسعار، وكأن (التجار) يعيشون خارج أي منظومة سياسية مرتبطة المصالح معهم. فيُصَبّ الغضب على التجار وتوجَّه أسهم النقد إليهم، وهم في الواقع لا يقومون بشيء سوى اتباع نمط تفكيرهم المحمي من الأنظمة السياسية.

فالأزمة والتأزيم ليست من صنع كوكب آخر هبطت على الكرة الأرضية من خارجها، بل هي صناعة محلية من إنتاج النظام الرأسمالي، سواء كان في مراحله المتطورة، أم مازال يتشكل في بعض دول العالم بصيغة (الرأسمالية الوحشية)، عند بدايتها.

لذا: رأفةً بالتجار، فليس هم فقط من يطبّق ذهنية البرجوازية، بل هناك حامٍ قانوني لهذه الذهنية ومسوِّق لها.

العدد 1104 - 24/4/2024