التعليم المجاني.. وهم الاستمرار

حسين خليفة:

(ونظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد. وانطلاقاً من الحرص على تخفيف العبء المالي عن الأهالي، ولضمان حسن سير العملية التعليمية بالشكل الأمثل، فإن الوزارة تطلب من مديرياتها في المحافظات التعميم على المدارس بعدم التشدّد في اللباس المدرسي شريطة أن يكون اللباس مناسباً، والتخفيف من القرطاسية اللازمة للطلاب المتعلمين والاكتفاء بما هو ضروري قدر الإمكان)

هذا جزء من تعميم أصدرته وزارة التربية السورية، وهو اعتراف صريح من جهة رسمية_ ربما للمرة الأولى_ بأن هناك مشكلة حقيقية في تأمين مستلزمات الدراسة لـ90 بالمئة من الأُسر السورية، وهي الأُسر التي تقبع تحت خط الفقر بل تحت خط الجوع.

أجمعت إحصاءات عدة أن كلفة تجهيز طالب واحد للعام الدراسي من لباس ودفاتر وأقلام وحقيبة ولوازم أخرى بحدود 500 ألف ليرة سورية، فيما لا يتجاوز أعلى راتب (السقف) لموظف من الفئة الأولى بعد الزيادة الفضيحة على الرواتب 312 ألف ليرة سورية، فيما بقي الحد الأدنى للراتب 186000 ليرة سورية!!

هل سنجد بعد هذا مسؤولاً حكومياً أو حزبياً يعيد العزف على نغمة مجانية التعليم الممجوجة؟!

هل سيتجرأ أحد من (نواب الشعب) على طلب استجواب رموز السلطة لمخالفتهم الدستور الذي ينص في المادة (29) منه على ما يلي:

(1 ـ التعليم حقّ تكفله الدولة، وهو مجاني في جميع مراحله، وينظم القانون الحالات التي يكون فيها التعليم مأجوراً في الجامعات والمعاهد الحكومية.

2 ـ يكون التعليم إلزامياً حتى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، وتعمل الدولة على مدِّ الإلزام إلى مراحل أخرى).

فالأثرياء وتجار الحرب وأبناء السلطة هجروا منذ زمن طويل المدارس الحكومية، وأنشؤوا مدارسهم (الراقية) التي تجاوزت أقساطها عشرات الملايين، ولم يبقَ في مدارس الدولة سوى أبناء الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم بعد كل هذا الخراب، وقد أصبح معلوماً ومكشوفاً عجز معظم السوريين عن تأمين تكاليف تعليم أبنائهم، فأين كفالة الدولة لحق التعليم؟ وهل بقي فيه شيء مجاني؟!

لننظر إلى وضع أبٍ لديه ثلاثة أولاد في سن الدراسة، كلفة تجهيزهم فقط للعام الدراسي مليون ونصف المليون ليرة.

تكاليف المواصلات، ومعظم الفقراء يقطنون في أحياء عشوائية لا توجد فيها مدارس، فيرسلون أولادهم إلى مدارس في الأحياء المجاورة، هي بحدود مئتي ألف شهرياً لكل ولد (المجموع ستمئة ألف) والمصروف اليومي للطالب خمسة آلاف ليرة كحدٍّ أدنى (نصف مليون شهرياً لثلاثة أولاد) أي أنه يحتاج إلى مليون ومئة ألف ليرة مصروف شهري للمدرسة فقط!!

إنه إجبارٌ للناس على إخراج أولادهم من المدارس مع الاستمرار نظرياً في فرض إلزامية التعليم، أي إنه إصرار من السلطة على جمع المتناقضات كما تفعل في كل المجالات، فحين تمنح الموظف مئتي ألف راتباً شهرياً وسطياً، وأنت تعلم جيداً بأن احتياجاته الأساسية ليستمر في العيش ـ وليس الحياة ـ هو أكثر من ستة ملايين ليرة شهرياً، فإنك تريد جمع متناقضين، تحاول المستحيل، ويصبح البحث عن الخلاص الفردي ومبدأ (دبّر راسك) هو السائد.

أي أن الدولة انسحبت من أداء واجباتها الدستورية في مجال حق العمل الذي يكفل العيش الكريم وحق التعليم وغيره، وهو ما يستدعي محاسبة السلطة من قبل السلطة التشريعية، لكن أين السلطة التشريعية المنتخبة التي تتجرأ على ممارسة دورها؟!

وهكذا نعود إلى الحلقة التي نعود إليها دائماً في مناقشة أي قضية اجتماعية، وهو ضرورة وحتمية التغيير نحو بناء دولة مؤسسات وقانون، دولة ديمقراطية علمانية قائمة على تداول السلطة ومحاسبتها من قبل مؤسسات منتخبة مع ما يتطلب ذلك من حريات سياسية واجتماعية وإعلامية، وإلغاء تسلّط الحزب الواحد الذي عفا عليه الزمن ولم يعد موجوداً سوى في بضع دول تسجن شعوبها وتعيش خارج التاريخ.

ولأن الطريق طويل لتحقيق هذا الحلم السوري، فإننا نطرح حلولاً عاجلة وسريعة ومؤقتة لحين إقامة دولة القانون والحق، وهو أن تبادر المؤسسات القائمة حالياً سواء في مناطق سيطرة النظام، أو في مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع، إلى إجراءات إسعافية عاجلة، إلى خطة طوارئ وطنية أمام هول الكارثة التي لا تقلُّ عن كارثة الزلزال، مثل تقديم منح مالية كافية وحقيقية لكل أسرة حسب عدد الأولاد الذين في سن التعليم لمساعدتها على إتمام تعليم أبنائها. أو تأمين رزمة مساعدات عينية من احتياجات العام الدراسي من لباس وقرطاسية وحقائب.

كما يطرح هذا على المجتمع الأهلي مسؤولية كبيرة رغم كل التهشيم والتهميش الذي تعرض له خلال عقود التفرّد وإلغاء الحياة المدنية، خصوصاً بعد انسحاب الدولة من أداء دورها والاكتفاء ببيع الكلام والشعارات عن انتصارات ومؤامرات وحكايات منفصلة عن الواقع.

فالجمعيات الخيرية والأحزاب والمنظمات والاتحادات (على علاتها وضعفها وتهميشها) مطلوب منها أن تنشط في محيطها بشكل عاجل وطارئ لمساعدة السوريين في تأمين تكاليف الاستمرار في تعليم أبنائهم وبناتهم، وإلاّ فإننا سائرون إلى وضع أجيال بكاملها خارج التعليم وهي من أكبر الكوارث التي يتعرّض لها الوطن السوري.

العدد 1104 - 24/4/2024