مشاكل التنمية وتياراها السائدان
يونس صالح:
هناك تياران فكريان بخصوص مشكلات التنمية.. التيار الأول ويصف الاقتصاد الرأسمالي العالمي باعتباره بنية تتألف من مركز (خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية واليابان..) ومحيط (إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا باستثناء واليابان).
والتيار الثاني ليبرالي المنحى، ولا يرى علاقة تبعية بين الشمال والجنوب، بل ينطلق من النظرة الخاصة باقتصاد عالمي موحد لا يملك فيه كل بلد إلا أن يستغل (مزاياه النسبية)، لكي يربح.
وبرغم التباينات الضخمة بين بلدان العالم الثالث، فإن هناك سمات مشتركة أكيدة تشكل الوحدة وسط هذا التنوع:
– نمو سريع للسكان.
– نسبة مرتفعة للسكان العاملين في الزراعة: نحو 30% في الجنوب، بينما في الشمال هي بحدود 2-3%.
– نقص توظيف قسم ضخم من السكان العاملين، ويرجع ذلك إلى بقاء العلاقات العتيقة في الزراعة، كما يرجع إلى الهجرة الجماعية الريفية الناشئة عن انهيارها، ويصب هذا في تضخم فوضوي للمدن، وكذلك في (قطاع غير رسمي) مديني ضخم وأيضاً في ضعف الحافز إلى التجديد التكنولوجي والاجتماعي.
– ضخامة التفاوتات الاجتماعية. إن 10% من سكان البلدان النامية (رقم تقريبي إجمالي وهو يختلف من بلد إلى بلد آخر) يحصلون على نحو 50% من الدخل الإجمالي بينما في البلدان الصناعية المتقدمة يحصلون على 25%.
– ضعف القدرة على التجديد التكنولوجي، وبالتالي تصبح كل بلدان العالم الثالث تقريباً تابعة للشركات متعددة الجنسية.
– تضخم جهاز الدولة.
إن السؤال الذي يطرح هو: من أين جاء التخلف؟ وما منشؤه؟ وهل يرجع إلى أسباب داخلية أم خارجية؟
تجد علاقات التبعية منشأها في الوجود المتزامن في سوق عالمية واحدة، لأمم تطورت داخلها علاقات الإنتاج الرأسمالية بصورة غير متساوية، وهكذا يمكن تعريف التخلف على أنه الصدام بين قانون المنافسة الذي يتحكم بالسوق العالمية ومجتمعات مجردة من التماسك الداخلي الوظيفي لهذا القانون، وبالتالي فإن جذور التخلف (لا هي داخلية بحتة ولا هي خارجية بحتة، بل هي داخلية وخارجية بآن واحد).
والحقيقة فإن العالم الثالث ينقسم إلى ثلاثة عوالم ثالثة:
– اقتصاد الاستنزاف قبل الصناعي الذي يسود بعض بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
– الاقتصاد الأولي التصديري، حيث الانتشار الواسع كيفياً لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في قطاعات مهمة وخاصة تصديرية.
– البلدان الصناعية الجديدة أو البلدان شبه الصناعية مثل النمور الآسيوية والبرازيل والمكسيك والهند والأرجنتين وغيرها، وتتميز هذه البلدان بامتلاك بورجوازية صناعية تقف على أقدامها، وطبقة عاملة تشغل مكاناً مركزياً في النضالات الاجتماعية والسياسية.
وبرغم هذا التنوع، هناك ما يشكل وحدة هذه البلدان من حيث وجود خصائص مشتركة.
إن التنمية المنطقية والتاريخية هي أن بلدان العالم الثالث عموماً قد دخلت القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة هي مرحلة التراجع الاجتماعي. لقد أصبح على عدد من دول المحيط التي ترزح تحت عبء الديون أن توقف نموها، وأن تخصص جانباً مهماً من مواردها لدفع فوائد ديونها.
وأخيراً يشهد العالم الثالث انفجاراً سكانياً يخلق مشكلات تتعلق بالاقتصاد، وبالمجاعات والحروب الأهلية، كما أنه يشهد انفجاراً سرطانياً في نمو سكان المدن.. ولا تصب هذه الهجرة الريفية في عملية تحديث حقيقية، بل تقذف بها التكنولوجيات المستوردة إلى النمو الانفجاري للبطالة المدينية وتهديد الاستقرار الاجتماعي، كما يصب كل هذا في انخفاض الأجور، وتدهور مستويات المعيشة، والعمل العرضي الواسع النطاق، وفيما يسمى بالقطاع غير الرسمي، الأمر الذي يؤدي إلى تحولات ضخمة في سوق العمل، وفي تكوين الطبقات العاملة الشعبية.
وفي ظل سيطرة نخبة صغيرة، كثيراً ما تكون بيروقراطية حكومية أو عسكرية على الاقتصاد، وفي ظل دولة كلية الوجود وعاجزة، وفي ظل تركيز متعاظم للموارد والسلطة، لا تؤدي استراتيجيات وسياسات التنمية إلى إزالة العراقيل من طريقها، بل إلى إعادة إنتاج المنطق الداخلي للتخلف.
تبقى مسألة أساسية هي تلك المتعلقة باندماج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد العالمي، فبالرغم من نجاح عدد ضيق من البلدان في هذا المجال، فإن العالم الثالث بمجمله تقريباً يتجه أكثر فأكثر إلى التهميش من وجهة نظر مساهمته في الاقتصاد العالمي الذي أصبح يتميز بشكل ثلاثي الأقطاب حيث تنظم كل قمة من قمم الثالوث مناطق خاصة بها.. أما بقية الجنس البشري غالبيته في الواقع، فلا يلعب دوراً فعالاً، وتكريس تبعيته، وفي هذا السياق لابد من البحث عن طرق أخرى تعيد للعالم توازنه الضروري.