حول إيديولوجية الإسلام السياسي المتطرف التكفيري

يونس صالح:

ما أودّ أن أسلّط الضوء عليه في هذه المقالة أمران أراهما مهمّين فيما يتعلق بإيديولوجيات الإسلام التكفيري- الحربي المعاصرة: طرائق توظيف النصوص الفقهية والعقائدية القديمة لدى منظمات الإسلام السياسي، والطبيعة الإيديولوجية الغالبة لبيانات ذلك الإسلام، ومآل وآثار تلك الإيديولوجيات على الداخل الاجتماعي، وعلى الإسلام التقليدي في الوقت نفسه.

أما بالنسبة للأمر الأول: طرائق التوظيف، فالملاحظ أن الإسلاميين الحزبيين الإلغائيين يستخدمون النصوص القرآنية في الأعم الأغلب، وتلك التي تتصل بمسائل الكفر والإيمان بالذات، وهي غالباً آيات وردت في سياق الصراع بين المسلمين في المدينة وقريش المعادية بمكة.. وهم لا يستخدمونها كما وردت لصراع الإسلام مع الخارج المعادي، بل لمصارعة الجاهلية الكافرة في عقر دار الإسلام، حتى إذا اضطروا للتعيين والتحديد لجؤوا لفتاوى ابن تيمية وتلامذته مثل ابن كثير، أو لتلامذة فكره مثل محمد بن عبد الوهاب.. وإذا وصلنا إلى المسألة الثانية، مسألة طبيعة الفكر، نجد أن لديهم جميعاً بيانات يغيب عنها السياسي، ويسيطر العقائدي والإيديولوجي، فهم لا يسلكون مسلك المعارض السياسي الذي يريد أن يصل إلى السلطة من أجل الإصلاح أو ما يعتبره كذلك، بل يسلكون مسلك المخلّص والمنقذ لا للجميع بل للدين، دين الله الذي حُرّف ووقعت على عواتقهم مهمة إقامته وتسييده من جديد.

لذا يبدو أحياناً كأنما همّهم أن يقتلوا لا أن ينتصروا، أو كأنما لا خلاص لهم من الجاهلية، إلا أن يمضوا عمداً إلى الموت، تكفيراً أو توبة من الرجس السائد، ما دام اجتثاث ذلك الرجس من جذوره أمراً بعيد المنال.

إن الحركات الإسلامية المعاصرة تلك تشبه تلك الحركات التي عرفتها سابقاً الديانتان الأخريان المسيحية واليهودية، وقد عرفها تاريخنا كله، وما كانت لها آثار سياسية في الأعمّ والأغلب، وكان لها طابع إحيائي، ينشأ إحساس لدى فرد أو فئة من الفقهاء أو ذوي الحساسية الخاص في فترة ما أن (التوحيد) أو مفهوم (العبودية) يتعرض صفاؤه للشوائب والتهديد الداخلي أو الخارجي، فتقوم حركة إحيائية ذات طابع شعائري للتنقية أو العودة أو التوبة أو بلغة بعض الإسلاميين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتختلف مساربها وطرائقها ووجوه اهتمامها باختلاف الوضع الثقافي السائد.. ولا شك أن هذه الحركات تملك أو تتعمد أن تملك تأثيراً سياسياً لكن ليس لأهداف سياسية، بل لكي تنفذ برنامجها الديني. أما التسييس الشديد اليوم في الحركات الإسلامية المعاصرة فناجم عن الظرف الاستثنائي الذي يمر به المجتمع والدولة في البلدان العربية.. فبسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمآزق ذات الأبعاد الرمزية الكبيرة، صارت الحركات الإسلامية حركات واسعة الانتشار، فاصطدمت بالسلطات السياسية، وكلما تفاقم الصراع ازداد تسييساً، وإن ظلت لغتها وظلت أهدافها دينية اعتقادية وشعائرية ورمزية.

يقول سيد قطب في كتابه الشهير (معالم في الطريق): (إن المجتمعات القائمة كلها مجتمعات جاهلية وغير إسلامية، وإنه لينبغي التصريح بلا وجل أن الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض كلها اليوم لأن الحاكمية ليست له.. والبديل الوحيد لهذه الأوضاع الزائفة هو أولاً وقبل كل شيء قيام مجتمع إسلامي يتخذ الإسلام شريعة له.. ولا تكون له شريعة سواه).

ويقول في موضع آخر: (لابد من درجة من القوة لمواجهة المجتمع الجاهلي.. قوة الاعتقاد والتصور، وقوة الخلق والبناء النفسي، وقوة التنظيم والبناء الجماعي، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها المجتمع الجاهلي). إن من بين سطور ذلك الكتيب خرجت كل جماعات الإسلام الإلغائي في المجال العربي على الاقل.. يتضمن نص سيد قطب ذاك الفكرتين النظريتين الرئيسيتين السائدتين اللتين تنطلق منهما وتستند إليهما الجماعات الإسلامية المتطرفة، فكرة الجاهلية وفكرة الحاكمية.. ولقد تعززت هاتان الفكرتان عند قطب، بعد دخوله السجن أيام عبد الناصر في كتابه الشهير (في ظلال القرآن)- ويغلب الظن أن فكرتي (الحاكمية) و(الجاهلية) قد تعززنا عنده نتيجة تجربته في الغربة الأمريكية من جهة، ومعاناته في السجن من جهة ثانية.

على أن الأمر ما كان يحتاج إلى جهد كبير لفهم أصول أفكار سيد قطب في البيئة العربية، فالخيبة من الغرب المستعمر أو فكره وحضارته كانت قد أصبحت نغمة سائدة في الأوساط العربية في الأربعينيات من القرن الماضي.. وتحت تأثير هذه الأجواء، بدأ المفكرون العرب يتخلّون عن الليبرالية التي سادت الأجواء في مطلع القرن، ويعودون لأفكار الخصوصية والأصالة.. فبدؤوا أولاً بإبراز محاسن الإسلام، وندّيّته، عن طريق المقارنة بين التشريعات ووجوه النظم وتصور الكون والإنسان، ودفعتهم الاستعمارية الفرنسية والبريطانية والإيطالية والإسبانية إلى اليأس من الغرب في السياسة وأنظمة الحكم أيضاً، حتى إذا ضاعت فلسطين تحت وطأة مساعدة الغرب لليهود، ثبت لدى الجميع الفكرة القائلة بمؤامرة غربية بعيدة الغور على العرب والإسلام.. لكن عندما لم يستطع الإخوان المسلمون في البلدان العربية أن يلعبوا ذلك الدور الهام في الحياة السياسية العلنية، لجؤوا إلى التنظيمات السرية (في مصر بالدرجة الأولى)، والاغتيالات من أجل تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه بالدعوة.

إن الفضاء الخاص بأفكار الخصوصية في مشرقنا هو من صناعة الإخوان المسلمين والمفكرين الغربيين بالدرجة الأولى.

يمكن القول أخيراً إن الفضاء الثقافي، والثقافي السياسي يؤثر تأثيراً بالغاً في مستوى تطور الأفكار..

لنتذكر النقاش الذي دار بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون حول الدين والعلم، وكيف اختلف عبده معه في أطروحاته، لكن النقاش لم تسقط فيه كلمة يشتمّ منها رائحة التكفير، أو التآمر على الإسلام، بينما يقول سيد قطب لاحقاً، واصفاً الدعوة القومية والدعوة العلمانية بأنها دعوة العرق والتراب في مواجهة النفحات السماوية، وإن الديمقراطية والاشتراكية، على حدّ سواء، هما تأليه لغير الله.

العدد 1105 - 01/5/2024