حنا مينة.. ملك من حارة الشحادين

فادي إلياس نصار:

ذات يوم من عام 1970 كتب مبدع (الأبنوسة البيضاء) الرجل النبيل صاحب رواية (حارة الشحادين) التي سكب كل أخلاقه فيها، نعم، كتب المبدع الذي يعشق الكونياك الفرنسي مقالة يمجد فيها لينين (بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده)، بدأها بكلام أكثر من عميق، قائلاً: (سؤالي إليكم: متى يستقيم الصمت لغةً في الكلام).

 

كيف ما كان

حنا مينة، الذي ولد في يوم 11 آذار من سنة 1924، في مدينة اللاذقية، تقول عنه أمه: جبلتهُ الحياة كيف ما كان!

وعاش صاحب (الشراع) طفولته في إحدى قرى لواء الإسكندرون. ثم انتقل مع عائلته إلى مدينة اللاذقية عام 1939، فكانت ملهمته بجبالها وبحرها. وقد عمل في بداية حياته حلاقاً وحمالاً، ثم بحاراً وصياداً على السفن والمراكب. كذلك عمل مُصلّح دراجات، ومربّي أطفال في بيت سيد غني، ثم عاملاً في صيدلية، وصولاً إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللهجة العامية، إلى موظف في الحكومة، كان كل ذلك قبل أن يبدأ بخطّ أولى رواياته. وفي عام 1947 استقر به الحال بالعاصمة دمشق، فعمل في الصحافة، وتحديداً في جريدة (الإنشاء) الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها.

ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين واتحاد الكتاب العرب.

 

مؤمن حتى الموت

أواسط القرن الماضي خسر حنا مينة ابنه البكر سليم، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، وعلى الرغم من كل الألم والوجع الذي عاشه إلا أنه أصر أن يكون (مسيحاً) يصلب ويتألم في سبيل الآخرين، أصّرَ أن يكون قدوةً في الكفاح يُحتذى بها فهو يقول: أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحّى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.

 

بحري بامتياز

لقد نزف صاحب (نهاية رجل شجاع) أحاسيسه العميقة والصادقة، على الورق، بكل دقة وأناة، منجزاً أعماله الروائية والقصصية، واصفاً البحر بدقة لم يسبقه اليها أيٌّ من الأدباء العرب، فقد أجاد وأبدع فمدح ومجّد. وصف حياة الصيادين، وصراعهم مع الإقطاع على اليابسة ومع الأنواء وأخطار البحر، وسط الأمواج العاتية. وكتب يقول في ذلك:

لقد كان البحر دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، طبعاً لم أقصد البحر بشيء. في بداياتي، إلا أن لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر! أجبت: أنا البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟

تكاد تشعر بتنهّده، الممزوج بعرق البحّارة، وعمق حبه لكل ما يمتّ لليمّ ورائحة الملح البحري، بصلة، حين يقول:

البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة.

إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء!

فيما اعترف لي مرةً أن السؤال الذي كان يهرش عقله بشكل دائم كان: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟!

 

أمنيته

الروائي الذي أبدع (المصابيح الزرق)، رفض الخنوع، ناضل ومشى على الأشواك، فاضحاً كل أدوات الظلم وقسوة الجلاد، فقد قال ذات مرة: إذا كنت لا أستطيع، بمفردي، أن أزيل ظلم الحياة، فإنني أستطيع، بمفردي، ألا أصالحها، ولا أخافها.

الكاتب الذي عبّ من هواء البحر المملّح ما يكفي لعمرين، انتقل للعيش في دمشق، في قبو، فبقيت في قلبه لوحة الموج الساحرة على صخور بانياس، معلقة كشهقة موتٍ أخيرةٍ، باح ذات مرةٍ بحلمه النبيل وأمنيته الراقية قائلاً:

أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنني مربوط بسلك خفيّ إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات.

أنا لا أدّعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب.

 

حنا وبولس

حنا الإنساني حد الثمالة، كان حين تسأله أمه (ماذا تكتب ياحنا؟)، كان يكذب عليها قائلاً:(قصة القديس بولس).

فترسم الصليب على صدرها وتقول: (يتمجّد اسمه! برابو لا تنسى أن تطلب منه أن يغيّر حالتنا التعيسة).

وهكذا كان هو وأمه ينشدان الهدف ذاته، ألا وهو تغيير الحال.

ويضيف حنا قائلاً: لكن أمي كانت تطلبه في السماء وأنا.. أطلبه في الأرض.

 

في تكريمه

يوم كرّمته الحكومة السورية بمنحه وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، قال ملك رواية (الشمس في يوم غائم): (لقد انتقلت من فقر أسود الى فقر أبيض)، ولكن كان فرحه الأكبر أنه كُرّم في معظم قرى سورية، وفي واحدة من حفلات التكريم تلك، وتحديداً في صيف سنة 2009، في مدينة حماة ردّ صاحب (الفم الكرزي) على وصفه بأنه كاتب أرثوذكسي، فقال: (أنا إنسان أرثوذكسي بسيط، ولكني لم أكن يوماُ كاتباً أرثوذكسياً) وشدّد قائلاً:

(أنا أكتب لكل الناس، للفقير قبل الأمير. يقرأ الناس أدبي في الغرب كما يقرؤونه في العالم العربي، وتُدرَّس رواياتي في خمس جامعات أمريكية…). وأضاف: (أنا هو الحجر الذي رفضه البناؤون، وأصبح فيما بعد حجر الزاوية).

ورداً على سؤالي له عن عمله في السياسة ونظرته إلى الحرية وحلمه في التغيير أجابني: حنا مينه رجل نصفه عاقل ونصفه مجنون، غير أنه يحب نصفه المجنون أكثر. ومشكلتنا في العالم العربي أن حكامنا كلّهم عقلاء، ونحن نحتاج إلى شيء من الجنون. لقد ناضلت في سبيل الجلاء وعملت في السياسة (من المؤسسين الأوائل لمنظمة الحزب الشيوعي في اللاذقية) مع رفاق أعزاء (بدر مرجان)، وتعرضت للسجن والتعذيب.

في شبابي عملت حلاقاً، وحلمت بتغيير العالم، فكتبت مسرحية لا أعلم أين نصُّها الآن، قلت فيها: إنني سأغير العالم في ستة أيام وأستريح في اليوم السابع.

وعن الحب الذي أتقنه صوماً، صلاةً وإيماناً: (عندما كنت في العشرين من عمري كنت مشغولاً بالرغيف عن الحب، أما الآن فأقول لكم: الحب مرض لذيذ فأحبوا قليلاً كي تكونوا أقوياء).

كان سلاح حنا مينه هو الفكر، وطلقاته كانت كلمات من وردٍ وماء البحر – تحية الى روح شيخ الرواية السورية، ستبقى ملكاً متوجاً على عرش كل الناس الذي يعشقون البحر ويحترمون الفكر.

العدد 1105 - 01/5/2024