أحزمة (الدهماء) تُفجّر غضبها: فرنسا.. انتفاضة المهمّشين

سعيد محمد:

تستمرّ أعمال الشغب في جميع أنحاء فرنسا، في أعقاب إطلاق الشرطة النار على الشاب الفرنسي من أصل جزائري، نائل مرزوق (17 عاماً)، الذي أُوقف، الثلاثاء الماضي، أثناء قيادته سيارة من دون حيازة رخصة سوق، علماً أنه كان يعمل كسائق توصيل لإعالة والدته. وادّعت الشرطة الفرنسية بدايةً أن الشاب هدّد بدهس الضابط، لكنّ مقطعاً مصوّراً التقطه أحد المارّة أًظهر ضابطاً وهو يطلق النار من نافذة السيارة وهي متوقّفة، فأصاب سائقها في رأسه ليفارق الحياة على الفور. وقال المدّعي العام إنه لم يتمّ العثور على أيّ أسلحة أو مخدّرات في السيارة، مكتفياً بالإشارة إلى أن نائل كان يقود سيارة مستأجرة من دون رخصة.

ولا تزال الأجهزة الأمنية التي جرى تعزيزها بقوات إضافية وصلت إلى 45 ألف مجنّد، تكافح من أجل استعادة السيطرة على شوارع العاصمة وعدد من المدن الأخرى التي تشهد احتجاجات اتّسمت بالعنف. وفرضت قوّة كبيرة من الشرطة الخاصّة، قُدّر قوامها بسبعة آلاف فرد، إجراءات أمنية مشدّدة في قلب المنطقة التاريخية السياحية في باريس حول شارع الشانزليزيه الفاخر، حيث اعتقلت عشرات الشبّان. لكنّ الصدامات الأعنف وقعت في مرسيليا (جنوب)، حيث شوهدت قوات الشرطة وهي تصطدم بمحتجّين وتطلق عليهم قنابل الغاز، وتعتقل العديد منهم. وانضمّ هؤلاء إلى عدّة آلاف من الفرنسيين من أصول شمال إفريقية، مع تحوُّل الاحتجاجات إلى أعمال تخريب ونهب متاجر ومؤسّسات مالية ومقرّات بلدية، وحرق سيارات، وهجمات بالمولوتوف على مراكز الشرطة. وقد أُلغيت الحفلات الموسيقية والمناسبات العامّة، وأوقفت خدمات الحافلات العامّة، وأُغلقت محطّات الترام خلال الليل لمنع استهدافها، فيما فَرضت بعض البلدات حظراً للتجوال. كذلك، نُشرت قوات أمن خاصّة في بعض المدن، مثل ليل (شمال غرب)، وليون (وسط البلاد)، للتعامل مع الاحتجاجات المتصاعدة هناك.

وبينما كانت عائلة مرزوق تتولّى دفن ابنها في مسقط رأسه في ضاحية نانتير (جوار باريس)، قالت الحكومة الفرنسية إن ضراوة الاحتجاجات بدأت تتضاءل مع اعتقال (عتاة المشاغبين). لكن الطبقة الحاكمة الفرنسية بدت قلقة إزاء احتمال تفاعل الاحتجاجات المرتبطة بالفرنسيين من أصول مهاجرة، مع موجة غضب شعبي شاملة مستمرّة منذ أشهر، بعد فرْض الرئيس إيمانويل ماكرون قانوناً لإصلاح النظام التقاعدي بصلاحيات دستورية استثنائية ومن دون المرور في البرلمان. وألغى الرئيس الفرنسي زيارةً لألمانيا كان من المقرّر أن تبدأ يوم أمس، معلّلاً خطوته بالقول إنه (يريد البقاء في فرنسا في الأيام المقبلة)، بحسب بيان صدر عن قصر الإليزيه (السبت). والجمعة، اختصر مشاركته في اجتماع قمّة للاتحاد الأوروبي في بروكسل، عائداً إلى بلاده لمتابعة التطوّرات. وفي غضون ذلك، تحضر رئيسة الوزراء الفرنسية، إليزابيث بورن، اجتماعات متلاحقة مع كبار ضباط الشرطة الوطنية ومنسوبي وزارة الداخلية. وبحسب ما نقلت وسائل إعلام محلّية عن وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، ومصادر في الإليزيه، يبدو أنهم يستبعدون الحاجة إلى فرض حالة الطوارئ – التي من شأنها أن تمنح حكّام الولايات سلطات أوسع لقمع العنف -، أو استدعاء الجيش، خصوصاً مع تراجع حدّة الصدامات بين الشرطة والمحتجّين. وقال الوزير، في مقابلة تلفزيونية صباح السبت، إن (نشر عربات مدرّعة وطائرات هليكوبتر ومسيّرات و45 ألف ضابط شرطة، فضلاً عن الاعتقالات الواسعة، كلّ ذلك تسبّب في صدمة نفسية ردعت الناس عن القيام بأعمال شغب). واعترفت الحكومة بوقوع إصابات بالمئات في صفوف أجهزتها الأمنية، فيما قُتل شخص واحد على الأقلّ من المحتجّين، واعتُقل ما يقرب من خمسة آلاف منهم لا يتجاوز متوسط أعمارهم – وفق معلومات حكومية – الـ 17 عاماً، نصفهم من ضواحي باريس المهمّشة. وتعليقاً على ذلك، دعا الرئيس الفرنسي، الآباء إلى تحمُّل مسؤولياتهم ومنْع أبنائهم من التورّط في أعمال الشغب.

وكانت حكومة الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، فرضت حالة الطوارئ في عام 2005 لمدّة شهرين، واستدعت الجيش لقمع أعمال شغب مماثلة استمرّت على مدى ثلاثة أسابيع، عندما قُتل مراهقان فرنسيان من أصول مهاجرة أثناء هروبهما من الشرطة. وتتمتّع الأجهزة الأمنية الفرنسيّة بصلاحيات توقيف وتفتيش واسعة، وتطبّق تكتيكات قاسية. وأثار الحادث وقتها احتجاجات واسعة النطاق. وفي عام 2019، أدين عنف الشرطة المفرط ضدّ احتجاجات السترات السود التي نظّمها العمّال المهاجرون غير الشرعيين في باريس على نطاق واسع. وقد طالبت الناطقة باسم مفوّضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، الحكومة الفرنسية، بأن (تأخذ على محمل الجدّ القضايا العميقة للعنصرية والتمييز داخل أجهزة إنفاذ القانون في فرنسا).

بدأت موجة الغضب الحالية، مساء الثلاثاء الماضي، على شكل احتجاجات عفويّة حاشدة من ضاحية نانتير، حيث كان يعيش نائل مرزوق، قبل أن تنتشر إلى المدن والبلدات الفرنسية، مندّدة بالحادث باعتباره عملية قتل خارج نطاق القانون، وبدوافع عنصرية. واصطدم شبان من جيل مرزوق بقوات الشرطة في غالبية المناطق المهمّشة ذات الدخل المنخفض التي تضمّ أقليّات ومهاجرين يواجهون تنميطاً عنصريّاً ممنهجاً من قِبَل الأجهزة الأمنية، وتمييزاً سلبياً في فرص الإسكان والعمل والترقي الاجتماعي، وفقاً لدراسات رسمية. وحاول كابتن فريق كرة القدم الفرنسي، كيليان مبابيه – المقرّب من الرئيس ماكرون -، ورياضيون فرنسيون من أصول إفريقية، إقناع المتظاهرين بوقف العنف. وكتب لاعبون في المنتخب الوطني لكرة القدم على (تويتر): (الكثير منّا ينحدر من أحياء الطبقة العاملة، ونشارككم هذا الشعور بالألم والحزن)، لكنهم انتقدوا ما وصفوه بـ(التدمير الذاتي)، مشيرين إلى أن (هذه التي تخرّبونها هي ممتلكاتكم، أحياؤكم، مدنكم). لكنّ تماهي أثرياء الرياضة هؤلاء مع الموقف الحكومي بدا غير فاعل في إقناع التلامذة الغاضبين، أو الشبّان العاطلين من العمل، أو ذوي العائلات الذين يعملون بوظائف متدنيّة وعقود مؤقتة أو صفرية، بوقف احتجاجاتهم على استهداف الشرطة لأحدهم. كذلك، شاركت جماعات يسارية في الاحتجاجات، لكنها ناشدت المتظاهرين عدم التورّط في العنف الذي قد تستخدمه الدولة لتبرير قمع الغضب الشعبي، وطالبت بإلغاء قانون عام 2017 الذي يسمح بشكل غامض للشرطة بإطلاق النار (على السائقين الذين لا يطيعون أمر التوقّف وقد يشكّلون خطراً).

وتمثّل الاضطرابات صداعاً كبيراً إضافيّاً لماكرون الذي دعا مواطنيه إلى الهدوء، بينما وصف أيضاً حادثة إطلاق النار بأنها (لا يمكن تفسيرها، ولا تُغتفر)، مديناً، في الوقت ذاته وبشدّة، (كل مَن يستغلّ هذا الوضع وهذه اللحظة لمحاولة خلق الفوضى ومهاجمة مؤسّساتنا). ويناضل الرئيس الفرنسي لتجاوز أشهر من الاحتجاجات الشعبيّة على (إصلاحاته) للمعاشات التقاعدية التي تعارضها الأغلبية الساحقة من الفرنسيين، إضافة إلى تباينات ظهر بعضها إلى العلن مع الفرقاء الغربيين في شأن مواقف فرنسية متمايزة حول العلاقات مع الصين، وإدارة الصراع مع روسيا في أوكرانيا، وأيضاً في شأن مظلّة الحماية الصاروخية للقارة الأوربية. أيضاً، تعرّضت حكومة ماكرون لانتقادات حادّة من قِبَل زعيمة المعارضة اليمينية، مارين لوبن، لِما وصفته بـ(تهاونها الشديد مع مثيري الشغب وتساهلها مع الجريمة)، إذ قالت إنه (لا يمكن أن يكون هناك عذر محتمل لِما سمّته الفوضى)، في حين قال السياسي اليساري، جان لوك ميلانشون، إن (العنف الزائد الذي ترتكبه الشرطة يجب أن ينتهي).

وكانت النيابة العامة الفرنسية قد وجّهت اتهامات أوّلية بالقتل العمد ضدّ أحد الضابطَين اللذَين تورّطا في حادثة إطلاق النار، ووضعته رهن الاحتجاز إلى حين تقديمه للمحاكمة، وهي خطوة نادرة في مثل هذه الحالات، قيل إن الإليزيه أوحى بها، بينما دعا محامو عائلة نائل إلى اتّخاذ إجراءات قانونية في حقّ الضابط الآخر أيضاً.

وتبدو حادثة القتل خارج القانون الأخيرة هذه مجرّد شرارة كانت تنتظرها تراكمات من توتّرات اجتماعية وطبقية وثقافية حادّة تعاني منها فرنسا منذ عقود، وأتت في خضمّ لحظة استقطاب سياسي حادّ. وأَظهرت الليالي المتعاقبة من الاحتجاجات العنيفة أن المناطق الفقيرة والمختلطة عرقيّاً في محيط العاصمة ومعظم المدن الفرنسية الكبرى، لا تزال كبرميل بارود، جرّاء الشعور بالظلم والتمييز العنصري والثقافي وتخلّي الدولة، وإرث تاريخي من الإهمال والفقر وسيطرة العصابات، ينتظر حوادث هنا أو هناك كي ينفجر مجدّداً. ولا شكّ في أن شعور قادة الأجهزة الأمنية والطبقة البرجوازية بأن هناك ما يبرّر وصف الشبّان المحتجّين بأنهم (حشرات) و(جحافل متوحّشة) يدلّ على الفجوة الخطيرة والآخذة في الاّتساع، التي تقسم بين (مَن يملكون) و(مَن لا يملكون) في فرنسا.

وتحاول النخبة الفرنسية الحاكمة أن تبقي هذه الاحتجاجات محصورة في نطاقها العرقي والثقافي، وتبذل جهوداً عبر الإعلام لتكريس ذلك، لأن توسّعها نحو الطبقات الفقيرة من الفرنسيين الآخرين سيكون بمثابة حرب طبقيّة شاملة نجحت إلى الآن في تأجيلها، على رغم المرارة التي تقاسيها أغلبية المواطنين. ومن خلال لعبة الهويات هذه، تُبْقي النخبة الغضبَ موزّعاً بين يمين أبيض يمكن استيعابه في أطر الحُكم والسياسة بطرق مختلفة، وأقليّات محاصرة من المهاجرين الذين يمكن قمعهم بالعنف البطيء (والعاجل عند الحاجة).

في هذا الوقت، تتابع عواصم أوربية عديدة، ولا سيما برلين ومدريد ولندن، الاضطرابات في فرنسا، آملةً في أن تتمكّن السلطات من إخمادها سريعاً قبل أن تتّسع وتتحوّل إلى مصدر إلهام للطبقات الفقيرة عبر القارة والتي تضاعفت آلامها الاقتصادية منذ انطلاق المواجهة الجارية بين روسيا والغرب على المسرح الأوكراني، وما تسبّبت به من تراجع حادّ في القيمة الحقيقية لأجور مَن لا يملكون وتضاعف ثروات مَن يملكون.

(الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024