الهند بديلاً للصين؟!

د. نهلة الخطيب:

قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بجولة لتعزيز العلاقات مع الدول الغربية بدأها بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، ثم حلّ ضيف شرف في فرنسا بدعوة موجّهة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تتزامن مع العيد الوطني لفرنسا، شدّد فيها ماكرون على أن فرنسا والهند تتشاركان الرؤية نفسها للسلام والأمن في أوربا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي، فلفرنسا مصالح وأراضي ما وراء البحار يعيش فيها مليون ونصف مليون مواطن فرنسي (كالدونيا وبولينيزيا ومايوت) ويوجد 93% من المنطقة الاقتصادية الفرنسية قد تتأثر بالتوترات المتصاعدة بين واشنطن وبكين، وتناولت الزيارة محادثات عدة حول التعاون الأمني والسيبراني والتعاون الفضائي والنووي والمدني والتكنولوجي ومكافحة الإرهاب والتغير المناخي ومصادر الطاقة المتجددة في الوقت الذي تترأس فيه الهند مجموعة العشرين، وخلُصت الزيارة إلى شراكة استراتيجية ومعمقة أكثر، ومَنح ماكرون رئيس الوزراء الهندي مودي وسام جوقة الشرف من رتبة الصليب الأكبر، في الوقت التي انتقدت منظمات غير حكومية ومؤسسات دولية هذه الحفاوة والتغاضي عن حقوق الأقليات، فهي تتعارض مع قيم فرنسا وخاصة خلال يومها الوطني باعتبار أن مودي، زعيم الحزب الحاكم، يميني متطرف يقمع الأقليات وخاصة المسلمين ومتهم بالتضييق على الصحفيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان. يدرك ماكرون هذه الانتقادات ويستقبل مودي بحفاوة، هذا يعني أنه يريد أن يستخدم الهند لمصالح فرنسية ودولية، حقوق الإنسان والديمقراطية هي للاستهلاك المحلي، العلاقات بين الدول هي علاقات واقعية مصلحية. فهل يكون القرن الحادي والعشرون قرناً هندياً كما تسعى إليه الهند!؟

يمثل صعود القوى في النظام الدولي عملية معقدة تعتمد على تنامي مختلف مقومات القدرة والقوة الخاصة بالدولة وتفاعلها مع النظام السياسي من جهة، ومع مختلف السياقين الإقليمي والدولي لهذا الصعود من جهة أخرى، بنية النظام الدولي ديناميكية في حالة حركة وتغير دائم نظراً لوجود أكثر من فاعل مؤثر، إضافة إلى التحول في مفهوم القوة بصعود دول تمتلك مقومات القوة تفوق تلك التي تمتلكها الدول المهيمنة أو تعادلها، وبالانتقال من القوة العسكرية إلى الاقتصادية وتحول مركزها من الدول الغربية إلى قوى صاعدة في الشرق بسبب قدرتها على التكيف وجذب الاستثمارات واستيعاب التقانة مما يجعلها ذات تأثير اقتصادي وسياسي في العلاقات الدولية.

اليوم ومع تراجع الغرب وظهور قوى اقتصادية مثل الصين واليابان والهند تتجه أنظار العالم إلى الشرق وبالتحديد إلى الهند. إذ تتمتع الهند بموقع جيواستراتيجي هام دولياً وإقليمياً، وتطل على طرق بحرية تربط أوربا والشرق الأوسط بالصين واليابان وبقية دول شرق آسيا، فهي نقطة عبور لا غنى عنها على طريق الملاحة بين الشرق والغرب، مما جعل منها محور استقطاب عالمي وقوة اقتصادية صاعدة تتحرك بشكل كبير نحو تحقيق دور فاعل في النظام الدولي وجعل القرن الحادي والعشرين قرناً هندياً، بدأت الهند تطوير برنامجها النووي قبل الاستقلال عن المملكة المتحدة عام 1960، ورغم حالة عدم الاستقرار والحرب التي خسرتها مع الصين إلا أن الهند استطاعت تطوير برنامجها وقامت بتفجير أول قنبلة نووية لها عام 1974 بوزن ما يقارب ستة أطنان وسط استنكار المجتمع الدولي، ولكن أظهرت الهند استعدادها لكي تصبح دولة نووية من الدرجة الأولى في سباق التسلح بين الهند والباكستان والصين وملتزمة أمام المجتمع الدولي بإبقائه في حالة دفاعية فقط، الهند تملك ما يقارب 100 رأس نووي غالبيتها انصهارية، والغواصة (أي ان اس أريهارت) الحاملة للصواريخ النووية المصنعة محلياً وسيتم تسليحها بصواريخ ساراريكا التي يبلغ مداها ما بين 500 إلى 1000 ميل، وبهذه الغواصة تتقدم الهند على باكستان والصين اللتين لا تمتلكان أسلحة مضادة للغواصات، وبذلك تمتلك تفوقاً كبيراً على الباكستان والصين برغم أن الأخيرة تتميز بتفوق عسكري كبير على الهند، وتملك الهند جيشاً قوياً مكوناً من 1,1 مليون جندي مدرب على كل أنواع الأسلحة التقليدية والصواريخ.

بدأ الصعود الهندي المعاصر والمرتكز على البعد الاقتصادي عام 1991، إذ شهد بداية التحول الهندي نحو الانفتاح والاندماج في الاقتصاد العالمي، وتبنّت مبادئ السوق الحرة وتحرير اقتصادها وتعزيز انخراطها في التجارة الدولية، وعملت على تطوير البنية التحتية للدولة، فكان مشروع الرباعي الذهب وهو شبكة من الطرق السريعة لربط المراكز الصناعية والزراعية والثقافية الرئيسية، وكان له أثر كبير على تسارع معدلات النمو الاقتصادي في البلاد لتصل إلى ما يقارب 8% باستثناء بعض الانخفاضات المرتبطة بالأزمات العالمية وجائحة كورونا، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي للهند (2,7) تريليون دولار في عام 2018، فأصبحت الهند من الاقتصادات الكبرى في العالم.

توقعت الأمم المتحدة في 19/4/2023 أن تحتل الهند المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد السكان متقدمة بذلك على الصين، فسوف يبلغ عدد السكان الهند 14286 مليار نسمة مقارنة بـ14257 للصين أي بزيادة 30 مليون شخص، وهذا ما يحولها إلى أكبر دول العالم اكتظاظاً بالسكان، وهو من المحددات الرئيسية للقوة الشاملة للدولة ومكانتها الإقليمية والدولية ومدى تطورها ولا سيما في إطار التطورات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، ويعتبر التعداد السكاني من أشد التحديات التي تواجهها الهند، إذ يصعب تأمين فرص عمل وارتفاع معدلات البطالة مما يؤجج الاحتجاجات وأعمال الشغب والعنف كما حدث في عام 2022، ومع توقع نقص الغذاء العالمي بحلول عام 2030 وتبعات الحرب الروسية الأوكرانية والتغير المناخي، فسيكون التحدي الأكبر لتأمين موارد الغذاء والمياه، إضافة إلى ما تواجهه الهند من المشاحنات الطائفية والتمييز الطبقي الذي يتحول أحياناً إلى عنف دموي، علاقات كرسها الاستعمار البريطاني وما تزال متوترة رغم استقلال الهند عام 1947.

أكبر التحديات الاستراتيجية المباشرة للهند من منظور الأمن القومي الهندي هما الصين والباكستان، إذ تتقدم الصين عسكرياً على الهند إضافة إلى التكنولوجيا والنفوذ السياسي كونها عضو دائم في مجلس الأمن توقف أي قرار يكون لمصلحة الهند وإبرازها عالمياً، والحدود البحرية مع الصين التي تنشئ علاقة صراعية بطبيعتها، مما دعا الهند إلى اقامة شراكة أمنية بحرية رباعية تضم أستراليا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية تعرف باسم (كواد) لدعم البحار الحرة والمفتوحة، وتحالف (أوكوس) مع أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية لضمان الأمن البحري في منطقة الهندو- باسفيك.

تعد الباكستان مصدر خطر مستمر ودائم للهند ويعتبر الباكستانيون الجهاد ضد الهند شرفاً، تمتلك الباكستان العديد من الأسلحة النووية الفتاكة والمتطورة، إضافة إلى أن اقتصاد الباكستان يواجه كارثة حقيقية تكون تبعاتها على دول الجوار مما يعني اضطرابات داخلية ومزيداً من اللاجئين إلى الهند، والتقارب الصيني الباكستاني الذي يهدف إلى إبقاء الهند في حالة انحدار وتراجع والمتجسد في الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي أدى إلى تغيير كبير في الجيوبوليتيك للهند وخاصة عندما أيدت الصين سيطرة الباكستان على أراضٍ تدّعي الهند السيادة عليها (أزمة كشمير).

لمواجهة هذه التحديات سعت الهند إلى التقارب مع الدول الكبرى والانفتاح على أطراف عدة، فكانت شراكة استراتيجية شاملة وتوسيع التعاون المدني والعسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التحدي الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري من الصين المنافس على قيادة العالم في نظام متعدد أو ثنائي القطبية، وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي شكلت تحدياً كبيراً للعالم وبالأخص للهند واختباراً لعلاقة الهند التاريخية بروسيا، إذ إن ما يقارب 60% من مخزون الدفاع في البلاد من أصل روسي إضافة إلى إمدادات الطاقة، فلم تؤيد العقوبات ضد روسيا ونأت الهند بنفسها واختارت الحياد والانحياز الاستراتيجي للمحافظة على مصالحها وعلاقاتها، لا تريد أن تكون في حلف ضد حلف آخر ولا تريد أن تكون محصورة في محور قوة معين في النظام الدولي، تريد أن تستفيد من كل الفرص المتاحة لها من روسيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى مع الصين وغيرها من الدول في العالم.

في ظل التوترات والاصطفافات في العالم ينظر الغرب إلى الهند على أنها قوة موازية لنفوذ الصين المتنامي في العالم، وهذا واحد من الأسباب التي تدفع العلاقات الهندية مع الغرب والدول الأوربية إلى الأمام، مع تيقن الهند بأنها فرصة سانحة لتكون من الفاعليين الدوليين وقد تكون البديل الصناعي للصين، إذ إنها تمتلك سوقاً ضخمة وعدد سكان متزايداً مما يجعلها خياراً جيداً للدول والشركات العالمية لضخ استثمارات جديدة.

تقف الهند اليوم كدولة ذات موقع بالغ الأهمية وتاريخ ثقافي وأراضٍ واسعة وغنية الموارد واكتظاظ سكاني لديه قوة عمل ضخمة، إضافة إلى قدراتها العسكرية والنووية وعلاقاتها الدبلوماسية الحرة بعيدة عن التبعية، ترنو إلى مكانة في النظام الدولي كدولة عظمى، ولكن هذا لا يمنع من وجود معيقات كالتصنيف الطبقي بالمجتمع ومعيار دخل الفرد الذي لا يتجاوز نصف دولار يومياً، 77% من الشعب الهندي يعيش ظروفاً لا إنسانية دون أن تحقق جهود الحكومة أي تحسن ملحوظ في أوضاعهم المعيشية.

العدد 1105 - 01/5/2024