رواية غوركي (أين الله؟).. رؤية إبداعية متطورة

فادي نصار:

لم يكن في تاريخ الأدب الروسي شخص بجرأة غوركي (اليتيم) وصديق لينين الحميم، كما أن روسيا لم تعرف شخصاً يصطاد الأفكار السياسية ليسكبها في قالب أدبي، في محاولة منه لشرح هموم الناس وآلامهم، وحضهم على الثورة ضد واقع فرضته السلطات القيصرية الظالمة آنذاك، مثلما عرفت غوركي.

ولد غوركي عام 1868، وكانت جدّته التي تولت تربيته تجيد سرد القصص، مما أثر فيه تأثيراً كبيراً وصقل مواهبه، جاب غوركي روسيا كلها مشياً على الأقدام، وساعده ذلك على التحول إلى مدافع متحمس عن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية في روسيا، وأعلن ارتباطه بالاشتراكيين الديمقراطيين، وتبنى أفكار ماركس في معظمها، الأمر الذي جعله مشهوراً بل ومحبوباً في أوساط الإنتلجينسيا والعمال المثقفين.

كان غوركي صريحاً في وضعه الإصبع على الجرح، فقد عارض علناً النظام القيصري، وكشف السيطرة الحكومية على الصحافة، وعلى الرغم من أنه تعرض للاعتقال مرات عدة، إلا أنه وفي العام 1902 انتخب عضوا فخرياً في مجال الأدب في الأكاديمية الروسية، لكن القيصر نيكولاي الثاني أمر بتجريده منها. واحتجاجاً على ذلك، قدم أنطون تشيخوف وفلاديمير كورولينكو استقالتيهما وتركا الأكاديمية.

بعد وفاة لينين استدعى ستالين غوركي ومنحه قصراً، وسميت باسمه المدارس والشوارع ومدينته تحولت إلى اسم غوركي، وفي عام 1931 قرأ غوركي قصته الخيالية (فتاة والموت)، لزائريه ستالين وفوروشيلوف ومولوتوف، وما إن انتهى غوركي من القراءة حتى ترك ستالين توقيعه على الصفحة الأخيرة للرواية، وكتب: (هذه القطعة أقوى من (فاوست) غوته (الحب يقهر الموت).

عندما كتب غوركي روايته اعترافات ابن الشعب (أين الله) كان عضواً في الجبهة الثورية اليسارية الماركسية المتشددة، والتي عرفت تصدعات فكرية نتج عنها ظهور تيارات أسمت نفسها بالباحثين عن الله أو بناة الله أو مبدعي الله، حاول غوركي من خلال تلك الرواية أن يعبر عن مرحلة خطيرة وشديدة التعقيد مرت بها روسيا، وهي مرحلة ما بعد ثورة 1905، يتحدث فيها عن ظلم القيصر وتضييق الخناق على المجتمع وحراكه الثقافي والاجتماعي.

 

إبداع يستحق التقدير

تتخلص فكرة الرواية حول الفتى (ماتفي) اللقيط الذي تولى رعايته شمّاس الكنيسة لاريون وقد عوده على ارتياد الكنيسة ومساعدته على تنظيفها وأمور حياتية أخرى، وكانت تدور بينهما حوارات روحانية جعلت ماتفي يشعر بالأمان، إلا أن العطوف لاريون تعرّض للغرق وانتقلت الرعاية إلى تيتوف صاحب السلطة في مزرعة سولوكيه، زاد ماتفي تعلقاً بالكنيسة وبحب الله لكن قربه من تيتوف مكنه من الاطلاع على سجلات المزرعة وبدأت تتغير نظرته إلى الحياة حين اكتشف النهب الذي كان يقوم به تيتوف للمزراعين باسم الكنيسة!

أحبّ (ماتفي) ابنة تيتوف الذي تربى معها ورغب في الارتباط بها، غير أن تيتوف طلب منه أن يتخلى عن مبادئه من أجل تحقيق رغبته تلك، ولم يتوانَ ماتفي عن إرضاء تيتوف على الرغم من أنه كان يتعذب، وعندما توفيت زوجته وابنته بدأ رحلته المجنونة في البحث عن الله ليتخلص من عذاباته الداخلية، وانتقل من دير إلى آخر، ومرّت به الكثير من المواقف والمصادفات التي لم تزد نهاراته إلا ظلاماً دامساً، وعلى الرغم من أنه كان يعيش محاطاً بالرهبان، إلا أنه عاش وحيداً في الأرض، مغترباً عن نفسه وعن العالم!

ماتفي لم يعرف الحقيقة التي آمن بها إلا بعد أن التقى بأبونّا الذي دفع به للالتحام بالطبقة العمالية، فتنتهي قصة البحث بعد أن وصل إلى الحقيقة التي كان يبحث عنها والتي تعزز إيمان غوركي بالبروليتاريا، وهي طبقة العمال الذين يشتغلون في الإنتاج الصناعي ومصدر دخلهم هو بيع ما يملكون من قوة العمل!

يسترسل غوركي كثيراً بين طيات الرواية في وصف جمال الطبيعة وبراءة الحب، وروعة الصداقة، عدا التشبيهات المفاجئة التي يباغتك بها والتي تجعلك تعيد قراءة الجملة مرة تلو الأخرى وتتخيل المشهد، لقد كان عملاً إبداعياً يستحق التقدير، لا يمكننا أن ننسى في سياق الحديث عن هذه الرواية أن الروائي اليوناني نيكوس كانتزاكيس قد كتب رواية (الإغواء الأخير للمسيح)، بالسرد الروحاني (اللاإنجيلي) ذاته الذي كتبت به رواية غوركي (أين الله).

العدد 1105 - 01/5/2024