قصة قصيرة | نهاية حلم

بشار حبّال:

 

(لم يكن حكيماً لا، ولا بطلاً

 ولكن أنحني له

فقد كان إنساناً)

رسول حمزاتوف

 

أخاف على أبي من صعود الدرج والنزول عليه كل يوم، من أن يقع بعد تقدمه في العمر، قلت له: أبي سوف نجهز لك غرفة المكتب لتنام فيها مع أمي كي لا تقع_ لا سمح الله!

قال لي: مكتب الحزب؟ ما في محلّ ابني.

أجبته: غرفة المكتب فارغة، والشباب رتّبوا أمورهم بمكتب آخر.

قال: غرفة مكتب الحزب الأغراض الموجودة فيها أين سنذهب بها؟

قلت له: بسيطة، هناك أماكن كثيرة يمكن وضعها.

أغمض أبي عينيه وراح يلفّ سيجارة ويغوص بتاريخه كحالم، يستعرض غرفة المكتب بذاكرته كعاشق يستردّ صور حبيبته البعيدة، (طاولة كبيرة تتوسط الغرفة وبعض الكراسي، ومكتبة صغيرة فيها بعض الكتب عن الماركسية ومنشورات الحزب، في الطبقة السفلى من المكتبة زجاجة عرق هدية من الرفاق، مدفأة قديمة، بعض اللوحات لماركس ولينين وطفل يبكي). يسترد عذوبتها وجمالها وعذابات الأيام في مطاردة الأحلام لبناء بيت السعادة الاشتراكي، راح أبي يستغرق في أحلامه وذكرياته عن هذه الغرفة بالذات، غرفة مكتب الحزب الشيوعي السوري، هنا فرد كل أحلامه على الطاولة لبناء الحزب الطامح للاشتراكية، في هذه الغرفة ضغط كل المساحات للغد الأفضل، بعد أن كان كل المنزل والأسرة ميدانه النضالي. فأنا لا أذكر من كل طفولتي إلا لقاءين مع أبي، هما كل زوادتي مع هذا الشامخ في حياتي، المرة الأولى التقيت به في أول الحارة، فحملني على كتفة وركض بي نحو البيت، كانت روحي تزقزق من الفرح، أنا على كتف أبي وهو يضحك خلال هرولته، سعادة العالم لم تكن تكفيني مقابل أن يحملني على ظهره، المرة الثانية عندما استيقظت ليلاً من نومي في العلية وهي غرفة النوم الوحيدة لكامل العائلة في بيتنا المؤلف من غرفتين، وكان الفصل شتاء، شاهدت والدي يتحدث مع أبو إسكندر رفيقه في شؤون الحزب حول المدفأة، نظر إلي وقال: شو صحيت أبي؟

ودون أن يسمع جوابي مدّ يده إلى جيبه وأعطاني ليرة سورية واحدة، أخذتها وعدت إلى النوم من جديد ممسكاً بكنزي الثمين.

تلك ذكرياتي الوحيدة مع أبي في طفولتي؟ كبرت وإخوتي وطفولتنا موزعة بين أبي الهارب من وجه عناصر الأمن وتفتيش بيتنا كل فترة، أو مشغول بالحزب والرفاق. بالصبر وحدها أمي كانت تغطي كل الأشياء، البيت والعمل في تحضير المادة الأولية لجدي في صناعة الحبال والخياطة لنا ولأولاد الحارة وتأمين حاجات أبي في مخابئه السرية المتنقلة من مكان إلى مكان، جبل من العزيمة والصبر والإصرار كانت أمي تحمي كامل أفراد الأسرة والحزب معاً، ستة شباب ورجل هارب من الأمن والظلم وغياب العدالة إلى رحابة المستقبل الاشتراكي؟ عاش أبي كل حياته يحاور هذا الحلم ببناء الاشتراكية، تاركاً خلفه كل ما يعرقل هذا الحلم، مجازفاً بحياته وحياة أسرته من أجل الغد الأفضل، كان الحزب هو المكان الوحيد الذي يستطيع أن يمنحه كل روحه، هو الأمل الذي يعلق عليه كل أمانيه وأحلامه، وعندما نشبت حرب 1948 في فلسطين، باع كل ما كان يملك من أدوات عمله واشترى بندقية وسافر إلى فلسطين مع جيش الإنقاذ لمحاربة الاستعمار، الحزب هو حياته والهواء الذي يتنفسه، بيتنا هو مقر الحزب وعنوانه، كل نشاطات الحزب تجري في البيت من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس، أمي هذا الجبل من الصبر كانت تحمل الجميع بوجعٍ تعبر عنه أحياناً، وتدعو ربها أن يخلصها من الهم اليومي أحياناً أخرى، أبي خارج أوجاع أمي وعذاباتها كان يداعب حلمه، حلم الوطن والشعب؟، حلم بناء الاشتراكية، في هذه الغرفة اختصر أبي كل الأشياء مرة واحدة.

أشعل سيجارته وأخذ نفساً عميقاً وقال:

ابني هذه الغرفة فيها كل ذكرياتي وتاريخي، كل زاوية فيها تذكرني بالحزب، أنت تعرف أنني لم أعد أستطيع العمل في الحزب مثلما كنت، (خَتْيرنا) لا تحرمني مما بقي لي من تاريخي، ربما أموت إذا أصبحت الغرفة فارغة، مرات أجلس وحدي بالغرفة لأتذكر رفاقي وأيام النضال والتعب والتخفي، هناك أشياء كثيرة لا أستطيع أن اتذكرها خارج هذه الغرفة، المكان يا ابني (مانو حيطان وبلاط وشبابيك، المكان روح بتحكي وبتبكي أحياناً، أنت بتنسا شي أول مرة شفت فيها حبيبتك؟ أنت وأخواتك عم تفكروا صحّ ومشاني، بعرف هالحكي، بس هي الغرفة متل ثيابي التي ألبسها، من دونها بصير بالزلط، اترك كل شي على حالو.. وبس موت افعلوا ما ترغبون!). سلامتك أبي والعمر الطويل، كما تريد أبي، خوفنا عليك هو السبب، لك ما تريد أبي.

بعد سنة، أخي الذي يسكن مع أبي كان أكثر جدية مني، وقلقه أصبح أكبر على صحة أبي بسبب تعبه الواضح، فأنا بعيد عنه ولا أراه كل يوم، قرر أخي ودون أن يدرك ماذا تعني هذه الغرفة تحديداً لأبي، أفرغ غرفة المكتب ونقل سرير والدي إلى مكتب الحزب، أبي كان يراقب تفاصيل الاغتراب بصمت المعذب، ومع فك كل قطعة كان يتفكك شيءٌ ما بداخله، بصمت المكره على فقدان الحبيب، بصمت المكسور والمغلوب على أمره، كانت المرارة تأكل روحه مع نقل كل قطعة، هو لم يعترض لأنه يدرك صحة ما يفعله ابنه، لكنه يرفض الإقرار به، مغالباً روحه على القبول لكن الروح تأبى هذا القبول.

كان يكفي أبي أن ينطق أحد ما بالاعتراض ليقول حقيقة ما في نفسه من مرارة، ليقول قطعتم حبل السرةِ لحياتي، أمي هي من اعترضت لأسباب لا علاقة لها بتاريخ أبي وأحلامه المتكسرة، ولأسباب تافهة جداً، لكنها فجرت شرارة قلبه المنهك، كانت كافية ليصرخ أبي عليها بكل الألم الذي يأكل روحه:

اتركي الولد يا مرا، كل شي عم يساويه مشانك ومشاني، العمى بربك!

ثم سكت.. وللأبد!

العدد 1107 - 22/5/2024