هكذا مات الأب

حسين خليفة:

التاريخ: الحادي والعشرون من حزيران 1923

المكان: حي دمشقي قديم غزته المقاهي والمطاعم.

كُنَّا مجموعة من الآباء مجتمعين في مقهى نمارس فيه كل فترة طقوس العودة إلى زمن الشباب حيث الحياة فسحة حرية نسبية، فلا مسؤوليات بيت وأولاد وتعليم ومصاريف ومدارس وجامعات ومرض وملابس …الخ.

نأكل ما نجده في براد المنزل، ثم نمضي إلى الجامعة ولا نعود إلاّ للنوم أو لمراجعة بعض الدروس الضرورية.

لم نكن نُفكّر بتلك المرأة التي تُعيد ترتيب فوضانا بعد أن نستفيق من نومنا ونخرج، وتُعيد الخبز الذي تركناه مكشوفاً إلى مكانه حتى لا ييبس، وتعيد الطعام المتروك على المجلى إلى البراد، ثم تبدأ في التفكير بطعام اليوم والذهاب إلى السوق لجلب احتياجات الاسرة.

لم نكن نُفكّر بذلك الرجل الذي يخرج من المنزل قبل أن نستيقظ من نومنا، يأخذ زوّادته ويمضي، نفيقُ فلا نراه، وحين نعود من مشاويرنا متأخرين لا نراه أيضاً، يكون قد خلدَ إلى النوم باكراً كعادته حتى يستعيد بعض قواه التي استنزفها الكدُّ والتعب، ويتهيأ لنهار جديد يسعى فيه ليؤمّن لنا ما يستطيع من مستلزمات العيش.

لكننا حين نعود وقت الغداء نجد العائلة كلها تنتظر وقت عودته لتضع طعام الغداء ويجتمع الجميع على الميسور، ثم نتبادل الأحاديث مع الشاي بعد الغداء، نعرف أخبار بعضنا واحتياجاتنا ومشكلاتنا ومشكلات المحيط، ثم يمتدُّ بنا الحديث أحياناً إلى أعمق، فنتبادل شؤون السياسة والمجتمع، نختلف ونتفق، وكثيراً ما كانت المساءات أيضا مناسبة لجلسات عائلية دافئة لا تُنسى بكل ما فيها من تعب وخلافات وشجارات أحياناً.

الآن، انقلبت الأدوار.

صار هناك من ينتظر منّا كل شيء (من تمّ ساكت)، يعلم أن هناك من سيدفع له ثمن كتبه ودفاتره وأقلامه وسجائره ومشاويره مع أصدقائه، وهو لا يعلم أنه سيأتي يوم ويسأم هو أيضاً تكاليف الحياة مع أولاده ويسهر الليالي ليوزّع ميزانيته على الشهر حتى لا يشعر الأبناء بالنقص في شيء.

في المقهى نستعيدُ أيامنا المضيئة، حين كان لدينا الوقت والرغبة والمال لنحضر عروض السينما والمسرح ومعارض اللوحات والكتب، ونشتري ما تيسّر من كتب حتى صارت لدينا مكتبة عفّشها المعفشون مع ما عفّشوه من منازلنا وأرزاقنا.

نتبادل الكلمات و(اللكمات)، بعضنا يستعيد أيام لعب (ورق الشدّة) ويقتل وقته فيها مع صراخ متبادل مع شركائه تظنّها خناقة حقيقية لكنها تنفضّ بعد قليل.

في الفسحات بين التذكّر والحنين إلى الأيام الخوالي، كان يبادر أحدنا إلى الحديث عن ولده المتفوق في الرياضة، الآخر يتحدّث عن ابنته الماهرة في العزف وحلمها في التسجيل في المعهد العالي للموسيقا، آخر يتباهى بما حقّقه ابنه من درجات عالية في البكالوريا والتحاقه بكلية الطب.

الآن، في هذه الأيام المُظلمة، الحديث الغالب بين الآباء هو حديث الراحلين، أكبادنا التي لم تعد تمشي هنا على أرضنا، صارت بعيدة، وما يجمعنا بهم حديث عبر شاشات باردة لا يلبث أن ينتهي ويمضي كلٌّ إلى غايته.

ننشر على صفحاتنا في وسائل التواصل أخبار نجاحاتهم وقدوم مواليد جُدُد إليهم هم أحفادنا الذين يُفترض أن نحتضنهم ونشمَّ فيهم رائحة الأبناء، ونحبهم أكثر من آبائهم وأمهاتهم، لكنهم في البعد تعلموا لغات أخرى وعادات أخرى، اندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، يجاملوننا بكلمة أو أكثر ثم يتركوننا مع أبويهم.

الأب الذي كان (زعيم) البيت، ومرجع الجميع في حلِّ أي معضلة تعترضهم، ينتظره الجميع حتى توضع مائدة الغداء مع قدومه، لم يعد كذلك، صار غيابه طويلاً لأنه يعمل في أكثر من عمل، ولا يعود إلاّ ليستسلم للنوم، فنمت هوَّة بينه وبين الأبناء شئنا أم أبينا، وغاب هو عن تنشئتهم وتوجيههم، وصارت الأم والمجتمع هم من يقومون بدور التربية والتوجيه، والأب مجرّد جابٍ للمال ومحاسب يطلب منه كل منهم ما يحتاجه في الفسحات القليلة التي يراه فيها.

لقد مات ذلك الأب الذي كُنّا نعرفه ونعيش معه، الأب الذي كرّسته الأعمال الأدبية والفنية وقصص التراث والأغاني.

نعم مات ولا قيامة له بعد الآن.

العدد 1104 - 24/4/2024