فساد مؤسساتي

وعد حسون نصر:

من الملاحظ أن قيماً كثيرة تعرّت وبدأت تظهر سلبياتها وهفواتها، خاصة على صعيد العمل المؤسساتي، ابتداءً من الادارات وتنتهي عند الموظفين أو قد لا تنتهي. هذا الفساد طال كل جوانب حياتنا وبكل القطاعات، فعلى صعيد القطاع الطبي باتت المشافي العامة وكأنها تستقبل زبائن لا مرضى، والصدر مفتوح لمن يدفع ويغنّج الممرضين والممرضات، العناية اقتصرت على (صاحب الدلال)، كذلك تحديد موعد للتصوير أو التخطيط أو العمليات، فلا يكون إلاّ لمن لديه القدرة على إحضار هدية ثمينة لموظف المشفى مرفقة بمبلغ مادي أو عزيمة لوجبة شهية في أحد المطاعم! وكأن المريض الفقير الذي خُصّصت له هذه المشافي أصولاً لا يحق له أن يتلقى الرعاية فيها؟ فهو لا يعرف كيف يُدلّل موظفيها وممرضيها.

لن نبتعد كثيراً، ففي قطاع الخدمات مثل المحافظة والبلديات التابعة لها، وكل ما يُعنى بالشأن الخدمي، صار الفساد واضحاً وضوح الشمس. ففي الريف على سبيل المثال تسود العشوائيات ومخالفات البناء وخاصةً التي يقوم بها متعهدون بغاية التجارة فقط لا السكن الشخصي، نرى غضّ البصر عنهم من قبل المحافظة وبلدية المنطقة، وبين ليلة وضحاها ترى بناءً شاهقاً مخالفاً لكل معايير السلامة، المهم أن المتعهد عرف كيف يدلل القائمين على هذه الأمور بالشكل المناسب واللائق!

التجارة الداخلية والتموين وأرقام وهمية لخدمة المواطن وتلقي الشكاوى؟ تظن أنك تتصل بها لتنال حقك من غطرسة تاجر مُتسلّط، يردُّ الموظف ويسجل ضمن الأصول شكواك، لكن ماذا صنع من تسجيل الشكوى؟ فقط دوّنها وركنها في درج الشكاوى ريثما يستغلها هو إذا نقصت خزينته من بعض النقود فيذهب لمساومة التاجر ومن يدفع أكثر فتُطوى الشكوى وكأن شيئاً لم يكن! ويبقى هنا المواطن عينه هو الخاسر الوحيد.

الاتصالات وكذبة السرعة وأعطال الكابل وفقدان التيار الكهربائي عن المقاسم، وحجج كثيرة لواقع فاسد، فإذا أردت إصلاح عطل على خط هاتفك المنزلي ستصبح عبداً لعامل المقسم، ولكي يأتي ويصلح العطل ستدفع (ما يطلع من خاطرك) وهي العبارة الدارجة بين العاملين في قطاع الخدمات بحجّة الفئة الخامسة والمياومة والراتب القليل!

لا يختلف الأمر في الكهرباء والماء وغيرها، وتأتي هنا الحصّة الأكبر للقطاع التعليمي، المدارس الحكومية التي باتت أشبه بمراكز إيواء فقط، أو مكان أشبه بسجن الأحداث، مكان فقدَ الاحترام بين المعلم والطالب، غاب الكثير من مُدرّسي الاختصاص، وبالتالي اضطر الكثير من الأهل للجوء إلى المعاهد أو الدروس الخاصة فأصبح التعليم عبئاً على ذوي الدخل المحدود، وشيئاً فشيئاً سنراه بات لأصحاب النفوذ فقط، وكأن أبناءنا خارج منظومة التعليم، فوضى الإدارة التي بات أغلبها يشحذ على مدرسته!

والسؤال: ألا يعلم أصحاب المناصب في وزارة التربية والتعليم وفي مديرياتها أن بناء الوطن وازدهاره وتقدمه وتطوره ينطلق أولاً من دور العلم: المدارس وتوابعها؟

والدليل أن كل من أتى على هذه الأرض من مستبدٍّ إلى مستعمرٍ ومحتلٍّ كان قد حارب العلم بالدرجة الأولى لما للكلمة من قوة تأثير، فهي أقوى بكثير من تأثير السلاح. لذا، أما آن الوقت للوقوف بوجه هذا الفساد ومرتكبيه لنواكب الحضارة ونتمكّن من النهوض لنلحق الأمم في مسيرة تقدمها؟ فلماذا لا نحارب المرتشي في كل القطاعات، والبداية تكون من المواطن نفسه وذلك من خلال توقفنا جميعاً عن دفع إكرامية مقابل أي واجب قام به الموظف، بالتالي يصنف تحت مفهوم أنه يقوم بواجبه خلال تأدية عمله الوظيفي. كذلك، أليس من المفروض أن ترى الحكومة التغيير الاقتصادي والتضخّم في أسعار السلع فتعمل على زيادة رواتب موظفيها بما يتناسب مع السوق؟ فمن خلال هذه الزيادة لم يعد هناك حجّة للموظف بأخذ ما يُسمّى رشوة أو باللغة العامة (إكرامية) على أداء واجبه الوظيفي وخاصةً خلال أوقات الدوام الرسمي. كذلك، لا يضطّر الممرض أن يبيع شرفه ولقبه (ملاك الرحمة) لمن يدفع بسبب أن أجره قليل لا يكفي مصاريفه ومصاريف عائلته، وكذلك المُدرّس كي لا يفقد هيبته أمام طلابه بسبب الدروس الخصوصية وتلقيه أجراً من تلميذه.

أصلِحوا فساد المؤسّسات ليصلُح حال البلد، والإصلاح يكون بإنصاف العامل والطبيب والممرض والموظف والمعلم. فإذا أعطيتم كل ذي حق حقّه بشكل تلقائي، فستظهر معادن الموظفين، ويكون من الطبيعي أن يعود النقي والطيب لطيبه ويبقى الفاسدُ على حاله، وهنا يمكن التمييز بين المُجبَر لضيق ذات اليد وبين صاحب الطبع السيئ، وبهذا التمييز تستطيعون المحاسبة، أما بهذه الفوضى واختلاط الحابل بالنابل فلا يمكن التمييز ولا المحاسبة، وسيمضي الوضع بنا إلى الأسوأ، لان إصلاح البلاد يأتي من خلال إصلاح الإدارة أولاً.

العدد 1105 - 01/5/2024