نعم لمعالجة الأسباب لا الأعراض!

إبراهيم الحامد*:

لقد أنجز ما يمكن إنجازه في قمة جامعة الدول العربية بعودة سورية إلى وضعها الطبيعي في المجال الدبلوماسي العربي والإقليمي، دون أن تتطرق الكلمات المختصرة والمكثفة لقادة الدول العربية لأسباب الأزمات والمحن التي تمر بها معظم الدول العربية على إثر ما سمّي (ربيع الثورات العربية)، ومعالجة نتائجها تحتاج إلى جهود جبارة، وهذا لا يعني أننا كسوريين شعباً ووطناً بتنا بمنأى عن المخاطر، ما لم يتحقق صيانة الوضع الداخلي وإصلاحه، من أجل سد الثغرات بوجه التهديدات الخارجية وتحديات المرحلة القادمة.

وما أكثر تلك الثغرات! التي أحدثتها سياسات الحكومات المتعاقبة، منذ عام ٢٠٠٥ مع ظهور سطوة الليبرالية والدردرية والدولار في النظام الاقتصادي، وخاصة في مجال الاستيراد المناهض للصناعات والإنتاج المحلي الذي  تقلص إلى حد الإلغاء، وترافق ذلك مع نشاطات اقتصادية ريعية ومظاهر الفساد المقونن بقرارات وقوانين سهلت للاستثمارات الخاصة وخصخصة قطاع العام، والتخلّي عن دور الدولة الرعائي في أساسيات كان يعتاش منها معظم الشعب، وكان الخطر الأكبر عندما مسّت تلك السياسات العملية التعليمية، فتوسّع التعليم الخاص وانتشرت الجامعات الخاصة، وتراجع التعليم الحكومي أمامه وفُقدت الميزات التي كان يستفيد منها أبناء الطبقة الكادحة، وكل ذلك ساهم في انتشار الفقر والجهل والأمية في أوساط الشباب، فاستقطبت أعداداً غير قليلة منهم أوكارُ الفساد والكسب غير المشروع، وسهل اصطيادهم من قبل التيارات الدينية الطائفية المتطرفة والإرهابية، وخاصة في فترة انتشار الزوايا الدينية في الجوامع ومعاهد الشريعة، فساهم ذلك في انتشار الأمراض الاجتماعية دون مساءلة وتفشّت دون معالجة، حتى بات الداخل هشاً رخواً أمام العواصف الخارجية، التي أتت على الأخضر واليابس، وعادت بنا إلى عصور السلفية المقيتة، وسطا على الشارع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الجهلةُ وأصحاب الفكر الظلامي وقوى الفساد.

وما زال الوقت متوفراً لإنقاذ الشعب والوطن من هذه المحنة وهذا الكرب العظيم، إذا توفرت الإرادة ، ومازال (الأمل معقود بالعمل) والمطلوب هو: انتهاج مسار الحكمة والعقلانية والتأني في معالجة الأسباب من جذورها عبر حوار داخلي بين كل أطياف القوى والأحزاب السياسية الوطنية التقدمية السورية، التي لا شك بأنها تمثل معظم الشعب السوري وكل مكوناته الاجتماعية والقومية والاقتصادية، وفرصة البدء بالعلاج قد باتت مواتية، خاصة بعد حضور الرئيس بشار الأسد على رأس الوفد السوري قمة جامعة الدول العربية ٣٢ في جدة، بعد غياب اثني عشر عاماً، والذي أدلى بكلمة مختصرة ومعبّرة، أحاط بها قادة الدول العربية بالعناوين الكبيرة المسبّبة  في خلق واقع عربي مأزوم ومهزوم، وأكد على معالجة الأسباب لا الأعراض، وأهم ما جاء فيها قوله: (العلل يمكن للطبيب أن يعالجها فرادى، شرط أن يعالج المرض الأساسي المسبّب لها)، وأضاف: (علينا ألا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب)، وقوله: (لا يمكننا معالجة الأمراض عبر معالجة الأعراض. فكل تلك القضايا هي نتائج لعناوين أكبر لم تعالَج سابقاً)، وهذه إشارة للقضايا التي مرت بها المنطقة وما زالت، وبذلك قد حلل الواقع تحليلاً علمياً وعقلانياً وفق مقولة: (التراكم الكمي يؤدي إلى التغيير النوعي)، ومقولة: (السبب والنتيجة).

ونحن في الحزب الشيوعي السوري الموحد، نتفق تماماً مع هذا التوجه، وأشرنا إليه قبل الأزمة وطيلة سنواتها الاثنتي عشرة الماضية، في مذكراتنا ورسائلنا وتقاريرنا السياسية والاقتصادية، التي وجهت إلى كل الجهات المعنية بذلك، أكدنا فيها أن الأسباب الرئيسية لما جرى في سورية هو تراكم لنتائج السياسات الحكومية الخاطئة.

فعلى الصعيد السياسي: حذرنا من صعود التيار الديني السلفي والفكر الرجعي، على حساب التيار اليساري الوطني التقدمي والديني المتنور، وطالبنا بتوسيع الهامش الديمقراطي وقبول الرأي والرأي الآخر، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وعدم الاعتقال بسبب الرأي، والكفّ عن المعالجات الأمنية للحراك الشعبي والسياسي السلمي، وإطلاق الحريات السياسية داخل الجبهة وخارجها، وإلغاء المادة ٨ لقيادة الدولة والمجتمع من الدستور، والسماح بالتظاهر وتداول السلطة السلمي.

أما على الصعيد الاقتصادي: فقد بيّن حزبنا موقفه المعارض لنظام (اقتصاد السوق الاجتماعي) الذي اعتُمد رسمياً في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث عام ٢٠٠٥، وحذرنا من تبعات ذلك مراراً، وقد تبعته خصخصة العديد من مؤسسات ومنشآت القطاع العام، وانسحاب الدولة تدريجياً من دورها الرعائي والدعم الاجتماعي، وتقليص الإنتاج الزراعي والصناعي العماد الأساسي  للاقتصاد الوطني، ونبّه حزبنا لمخاطر نشاط القطاع الخاص الريعي، وعمليات الاستيراد لصالح حيتان المال والبازغين في فترة الأزمة، الذي انعكس سلباً على معظم الشعب، حتى بات يئن تحت خط الفقر المدقع في ظل تفشي الفساد والفكر الظلامي والجهل في كل مرافق الحياة الاجتماعية والمعيشية.

وفي الختام أقول: إن القراءة العقلانية والعلمية للواقع وكشف تناقضاته مهمّ، ولكن الأهم هو أن نستشف المستقبل، ونسخّر ما يتوفر من الطاقات الوطنية في تعزيز قدراتنا وقراراتنا الداخلية واستقلاليتها، وبما يلبي طموحات الشعب والنهوض به لملاقاة التحديات الخارجية للمرحلة الجديدة القادمة، التي قد تكون أخطر مما سبق.

* عضو رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري الموحد

العدد 1105 - 01/5/2024