يوميات الحرب (الزيارة)

بشار حبال:

لزيارة في بلدنا

في مدينتا

في حارتنا

في الزقاق الذي احتضن نصف قرن من حياتي وحياة أولاد الحارة، تركت الحرب ندبتها في كل بيت، ووسمت كل فرد فينا بطريقة وطنية متفردة، البعض قالت له صباح الخير وصرعته قبل أن يتمكن من أن يرد عليها التحية، البعض عضّته في مكان ما من جسده وتركت أثرها الذي لا يمحى إلا بالموت، البعض الآخر لاعبته كقطّ وحشي فتركت ندوبها وجراحها في جسده وروحه ومأكله وملبسه وجعلت منه شريداً وممزقاً فيما بقي له من الحياة والموت، هي الحرب داست بقدمها على أرواح الجميع غير عابئة بدموعنا وصرختنا.

زقاق بيتي المغلق على حاله وقاطنيه لا يتجاوز طوله مئتين متر، عدد الأسر التي تنحشر فيه ست عشرة أسرة، بيوت متهالكة نسيها الزمان برطوبتها وعفنها، تتكئ بعضها على بعض كسجناء مقهورين ومتعبين في مكان ضيق تتداخل الأيدي والأرجل في الفسحات التي تمنحها الأجساد المتعبة في غفلة منها، بيوت تأكلها الرطوبة من تحت، (وكشّاشين) الحمام من فوق، والكل يعيش على بركة الله (عيش اليوم ولبكرا بيفرجها الله)، هذا الزقاق القصير كفرحة الفقير، الطويل كحرب أهلية زارته الحرب على طريقتها وتركت وشمها في كل بيت منه:

البيت الأول: وهو مدخل الزقاق، أحد شباب الأسرة يعمل في لبنان قبل الحرب ويتردّد على سورية بين فترة وأخرى، تم توقيفه على الحدود السورية اللبنانية بتهمة تشابه الأسماء وخرج بعد أسبوع من السجن، وقرر أنه لن يعود إلى سورياة حتى تنتهي الحرب.

البيت الثاني: أصيب رب الأسرة بطلق ناري طائش في ذراعه خلال تراشق للنيران بين المسلحين وحاجز قريب، الصدفة وحدها أنقذت ذراعه من القطع كصدفة وجوده بين نارين.

البيت الثالث: أربعة شباب ثلاثة منهم في سن الجندية، الأول أنهى الجامعة ولا يعرف ماذا سيفعل بحاله، لا عمل ولا يريد الذهاب إلى الجيش، ألقي القبض عليه من أجل خدمة العلم، دفع المعلوم وعاد إلى البيت لا يجرؤ أن يتجاوز رأس زقاق الحارة، الثاني أيضاً ألقي القبض عليه وأرسل إلى الخدمة الإلزامية وهو الآن ضمن صفوف الجيش العربي السوري، الثالث هرب إلى تركيا وبقي هناك عدة شهور ثم عاد بعد أن عضّه الجوع، الرابع يتمنى أن لا يكبر، ويتحصن بدرج البيت ولا يغادره إلا في غفلة عن أبيه.

البيت الرابع: مغلق من سنوات عديدة بعد أن مات الآباء واختلاف الورثة على الحصص.

البيت الخامس: مرت عليه الحرب من بعيد ولم تلحظه جيداً، أولاده صغار ولا خوف عليهم أو منهم، لكن اللقمة أصبحت صعبة.

البيت السادس: ثلاثة شباب الكبير اعتقل أكثر من مرة ولأسباب مختلفة ويطلق سراحه من جديد، الأصغر قتل وهو يقاتل مع المسلحين وشيّعته أسرته وحدها ودون خيمة عزاء، الأصغر اعتقل أيضاً وأخلي سبيله، رب الأسرة مات حزناً على ولده القتيل.

البيت السابع: أسرة صغيرة من أربعة أفراد، أب وأم وولدين، قتل الولدان خلال عام على يد المسلحين بدعوى أنهم مخبرون؟ باقي الأسرة (طفشت) من البيت.

البيت الثامن: مجموعة من العجائز جميع أولادهم خارج البلاد يحمدون ربهم صبحة وعشية على نعمة الفراق عن أولادهم.

البيت التاسع: استعار العسكر خلال التفتيش بعض البطانيات من البيت من أجل الدفء مع وعد منهم بالإعادة حينما تنتهي الحرب.

البيت العاشر: كبير الإخوة هُدم دكانه في مناطق المخالفات، فهجر البلدة إلى ضيعة قريبة، الأصغر يخدم ضمن الجيش العربي السوري منذ ثلاث سنوات وعندما يحصل على إجازة لا يغادر البيت، رفض أن ينشق عن الجيش رغم كل الضغوطات عليه، ولما حان وقت تسريحه من الخدمة استدعي الأخ الكبير للاحتياط فتبرع الأخ الأصغر بالخدمة عن أخيه وهو مازال حتى الآن في الخدمة !

البيت الحادي عشر: حضر الأمن إلى بيته لاعتقاله فلم يجدوه، هو يعمل سائق (بلدوزر) في مؤسسة حكومية مدنية، رفض الذهاب إلى أماكن الاشتباكات ومن ثم حُلّ الموضوع بطريقة مرضية للجميع.

البيت الثاني عشر: رب الأسرة أول شخص يعتقل في التظاهرات وكانت الصدمة كبيرة في الزقاق، كثير من العويل والبكاء أصابت الجميع لبشائر الحرب وخرج بعد عدة أيام وتوقف عن المشاركة في التظاهرات نهائياً.

البيت الثالث عشر: موظف مدني في معامل الدفاع بحماة أصيب إصابات متعددة يوم هاجم انتحاري معامل الدفاع، وبقي طريح الفراش لمدة عام وهو مازال يعرج حتى اليوم.

البيت الرابع عشر: عائلة مُهجّرة من الرستن، الكثير من الأولاد والكثير من التخلف والجهل ولا وجود للشباب.

البيت الخامس عشر: أم وولدها الذي يعمل (نجار بيتون) في بداية الصعود (الثوري) شارك في المظاهرات وقاد فيما بعد العديد منها وأصبح مثالاً للحراك الشعبي حتى إنه اقتنى سيارة من حر ماله لقيادة النضال، بعد تراجع المد (الثوري) أصبحت سيارته (مفيمة) ويقود مجموعات من الدفاع الوطني لمواجهة الإرهابيين بسبب تراكم خبرته على الأرض!

البيت السادس عشر والأخير: (محسوبكم) الراوي اعتُقل مرتين و(شقفة) على الحواجز بسبب اتصال هاتفي خاطئ من قبل شخص لا أعرفه تبين أنه شخص مراقب ومطلوب، بقي الشخص حراً ووقعت أنا في (الجورة) مرتين للسبب ذاته عند جهتين مختلفتين، أما تلك الـ(شقفة) فتوقيف على الحائط لمدة ساعة ريثما حضر الضابط المسؤول فأطلق سراحي. ومن يومها أتجنب الحواجز ولا أغادر المدينة.

النساء اللواتي أغفلتهن حكايتي كباراً وصغاراً يعشن أوجاع الزقاق ويتضامنّ مع الجميع بغض النظر عن جهة القاتل أو القتيل، هو نبل المرأة الأم.

حكايتنا مثل كل الحكايات موجعة وحزينة لا تختلف إلا في شخصية الراوي ومكان الرواية، كل بيت في هذا الزقاق يخبئ حكايته كسردية متفردة لنسيج الحرب، يحكيها لأولاده وأقاربه كلما وقعت حكاية جديدة. ولأننا ننتمي ونعيش في الخرافة ففي جعبة كل واحد منا حكاية جديدة عن الحرب نتذكرها بأسى ونتمنى أن تنتهي وأن لا تعود.

أيار 2015

العدد 1105 - 01/5/2024