مبني للمعلوم المجهول

د. أحمد ديركي:

عندما كنا لا نزال طلاباً في المدرسة كانت دروس اللغة العربية واحدة من الدروس الصعبة التي نود أن نتخلص منها ومن أساتذتها بأسرع وقت ممكن، وبخاصة دروس القواعد والصرف والنحو.

لا أعلم سبب هذا الشعور، هل الذنب ذنب الطلاب لعدم وعيهم لأهمية اللغة العربية، أم ذنب الأساتذة لعدم وجود أسلوب يحبب الطلاب باللغة؟ أم الذنب مشترك؟ أم لا هو ذنب الطالب ولا ذنب الأستاذ بل الذنب ذنب من وضع المناهج؟

أو لعل الأمر في الأساس أعمق من هذا بكثير، والأستاذ والطالب لا علاقة لهما به، بل يعود الأمر إلى مسألة الهيمنة اللغوية السائدة، المرتبطة بمفهوم الهيمنة العالمية. أي لغة متسيد العالم هي اللغة المهيمنة. ولم يكن هناك ما يكفي من الجهود، على الأصعدة كافة، للنهوض باللغة العربية، بل ترك الأمر لتعمم فكرة أن اللغة العربية عاجزة عن مواكبة (العصر)؟!

خلال دراسة اللغة تعلمنا أن هناك جملاً مبنية للمعلوم وجملاً مبنية للمجهول. الفارق الرئيسي بينهما أن الجملة المبنية للمعلوم يكون الفاعل معلوماً ومن وقع عليه الفعل معلوماً. وفي جملة المبني للمجهول يكون الفاعل مجهولاً ومن وقع عليه الفعل معلوم، مثلاً:

أكلت هنادي التفاحة – مبني للمعلوم

أُكلت التفاحة – مبني للمجهول

ويستحيل للجملة أن تكون مبنية للمعلوم والمجهول في الوقت عينه.

لكن للأسف هناك من يودّ أن يقنعنا اليوم أن المعلوم والمجهول أمر واحد، فيلتغي منطق استحالة وجود جملة مبنية للمجهول والمعلوم في الوقت عينه. وهذا أمر ينطبق على عالم السياسة العربية وأجهزة السلطات العربية!

اغتيل مهدي عامل في مثل هذه الأيام والذي قام بالاغتيال مجهول – معلوم!

مهدي عامل عضو في الحزب الشيوعي اللبناني. ولا يقتصر الأمر على أنه عضو في الحزب، بل كان مفكّراً شيوعياً وله إنتاجات فكرية تستحق الدراسة والمناقشة. وتخطت شهرته لبنان لتصل إلى كل العالم العربي، واغتيل بتاريخ 18 أيار من عام 1987. وقد سبق اغتياله اغتيال المفكر حسين مروة وسبق اغتيال مروة اغتيال شيوعيين آخرين كما طال الاغتيال شيوعيين من بعدهم. وتمت عمليات الاغتيال بشكل منسق ومنظم ولأشخاص محددين. أي أن عمليات الاغتيال لم تكن اغتيالات فردية بسبب الثأر، أو أمور شخصية أخرى، بل الاغتيالات كانت اغتيالات لفكر لا لأشخاص.

خلال تلك الفترة أي عام 1987 حدثت متغيرات كثير في صيرورة الحرب الأهلية في لبنان، وليس الحرب الأهلية اللبنانية، ولمن يريد أن يتعرف على الفارق ما بين (الحرب الأهلية في لبنان) وبين (الحرب الأهلية اللبنانية) عليه العودة إلى قراءة مهدي عامل. وكذلك الأمر على المستوى الإقليمي وتغير موازين القوى، في الإقليم وانعكاسات هذه التغيرات في موازين القوى الإقليمية على مجريات الأحداث في لبنان.

من هنا لمعرفة من قام باغتيال مهدي عامل وحسين مروة وغيرهم من الشيوعيين عليه أن يكون ملماً بمجريات الأحداث الداخلية والإقليمية. ومن لا يريد وهذا شأنه، على أجهزة السلطة الموجودة حينها أن تقوم بهذه المهمة لكشف القاتل. وهذا أمر بديهي، وهنا يمكن القول: فلان اغتال حسن حمدان، الملقب بمهدي عامل. هنا تكون الجملة مبنية للمعلوم. لكن أن يكون الفاعل معلوماً ويقال: تم اغتيال مهدي عامل، الملقب بمهدي عامل بتاريخ 18 أيار من عام 1987. وحينها تكون الجملة مبينة للمجهول والفاعل معروف تكون جملة المبني للمجهول جملة خاطئة. ويستحيل أن تكون الجملة مبنية للمجهول والمعلوم في الوقت عينه!

في الاغتيال: تقول جريدة السفير: (… بينما كان يمشي (مهدي عامل) على الرصيف قرب منزله في منطقة الملا – بيروت … المسلحون الثلاثة كانوا يستقلون سيارة (ب. أم. ف 520) بيضاء اللون من دون لوحات أطلقوا النار على الدكتور حمدان في العاشرة صباحاً في شارع الجزائر – منطقة كركول الدروز، في محاذاة قصر كتانة، فأصيب بطلقات عدة في بطنه ورقبته ورجله، ونُقل على الأثر إلى مستشفى الجامعة الأميركية، لكنه فارق الحياة بسرعة متأثراً بجراحه).[1]

وقد أصدر الحزب الشيوعي اللبناني بياناً جاء فيه: (إنّ اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، تنعى لجماهير شعبنا اللبناني، ولقواه الوطنية والتقدمية، لمثقفي لبنان وطلابه، لأبطال المقاومة الوطنية والفلسطينية، ولحركة التحرر الوطني العربية، لكلّ المفكرين والمثقفين العرب الأحرار، لكلّ قوى السلم والتقدم والاشتراكية في عصرنا، لكلّ أنصار الحرية والفكر والمعرفة، المناضل الوطني الكبير والمفكر الثوري البارز عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني الدكتور مهدي عامل (حسن حمدان).

لقد امتدّت يد العمالة لتغتال هذا المناضل والمفكر والأديب والشاعر والصحفي المعروف، أستاذ مادة الفلسفة في الجامعة اللبنانية وصاحب المؤلفات الفكرية والأدبية الشهيرة، مدفوعة من دعاة الفكر الظلامي، أعداء الفكر وأعداء التقدم وأعداء الإنسانية، أعداء وحدة لبنان، أعداء العروبة وأعداء الدين العاملين باسم الدين، والمستظلين أجواء الفرقة المذهبية والنعرات الطائفية والتسلط الفئوي…

امتدّت يد العمالة والخيانة لترتكب جريمتها الجبانة في وضح النهار، ووسط العاصمة بيروت التي هلّلت للخطة الأمنية…)[2]

أي أن جريمة الاغتيال تمت في وضح النهار، والسيارة معروفة الأوصاف، والمنطقة التي تمت عملية الاغتيال فيها منطقة تقع تحت سيطرة السلطة الموجودة في المنطقة حينها! فكيف للقاتل أن يكون مجهولاً وكانت قد سبقته عملية اغتيال لمفكر شيوعي آخر، حسين مروة؟

القاتل هو كما وصف في بيان الحزب الشيوعي ووصفة مهدي عامل، في كلمة وداع لحسين مروة حين قال مهدي: وحّدتنا ضد غدر القتلة. فلنشكرك. أيقظت في وجدان المثقفين حقيقة هي أنهم، جميعاً، مستهدفون، لأنهم مثقفون. فمن طبيعة الظلامية، أن تقتل إيمان الإنسان بالإنسان، فالثقافة، كل ثقافة، خطر عليها، إذاً: فليتوحد المثقفون ضد الجهلة. (من كلمة مهدي عامل في وداع حسين مروة – النداء 19/5/1987).

فالقاتل ذو طبيعة ظلامية. هل هذه القوى الظلامية مجهولة أم معلومة لتصاغ الجملة الاغتيال بصيغة مبني للمعلوم أو للمجهول؟

من ناحية أخرى اعتُبر تاريخ 19 أيار من كل عام (يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي) وانعقد بعد عام من اغتيال مهدي عامل، أي بتاريخ 20 أيار 1988، لقاء في معهد العلوم الاجتماعية (الفرع الأول) عند الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الجمعة، تحدث فيه عميد المعهد، الدكتور هشام حيدر، وحشد من المثقفين اللبنانيين. ومما جاء في كلمة عميد المعهد: (باسم الجامعة اللبنانية ومعهد العلوم الاجتماعية الذي قرر بأن تُخصص قاعة كبرى بإسم قاعة الشهيد حسن حمدان، وستقام أو ستعد جائزة كل سنة للمتفوق يُطلق عليها اسم حسن حمدان. هذا وإنّ مركز الأبحاث في معهد العلوم سيأخذ على عاتقه إعادة طبع كتب ومؤلفات حسن حمدان التي نفدت، وجمع المقالات والخطب والدراسات كافة التي ألقيت في الندوات التي أقيمت تكريساً لذكرى حسن في فرنسا وبعقلين والندوة التي ستُقام قريباً في القاهرة ونشرها في كتاب خاص بإسم حسن حمدان).[3]  وها نحن اليوم في عام 2023، وما زلنا بانتظار أن تُكتب الجملة بصيغة المبني للمعلوم وتطبق عملياً كلمة عميد المعهد، الدكتور هشام حيدر.

لقد مر 35 عاماً ولم نشهد أي تحقيق فعلي لنقل الجملة من المبني للمجهول – المعلوم إلى جملة بصيغة مبني للمعلوم. وفي الوقت عينه جملة المبني للمعلوم، أي ما قاله عميد المعهد، عام 1988 ما زالت في غياهب الزمن ولم يتحقق منها شيء، سوى أنه كان هناك قاعة كبرى في المعهد باسم الشهيد مهدي عامل، ولكن منذ فترة ليست وجيزة أُزيلت صورته واستعيض عنها بصورة أخرى واسم آخر ينتمي لحزب سلطوي راهن، ووضعت صورة مهدي في غرفة صغيرة! وهنا يُطرح السؤال من قام بهذا الفعل معلوم فكيف يمكن أن يعبّر عنه بصيغة المجهول؟! والسؤال الآخر: ما الهدف من وراء القيام بفعل كهذا؟ فمتى يحق لنا أن نصيغ جملنا بصيغ المبني للمعلوم، عندما نكون أو تصبح الأمور معلومة، من دون أن نصبح هدفاً مستباحاً للقوى الظلامية؟

 

[1] جريدة السفير، اغتيال مهدي عامل، تاريخ 19 أيار 1989.

[2] جريدة (النداء)، بيان الحزب الشيوعي اللبناني في نعي الشهيد مهدي عامل (حسن حمدان)، تاريخ 19/5/1987.

[3] جريدة النداء، الإعلان عن قاعة وجائزة سنوية باسم الشهيد في معهد العلوم الاجتماعية، تاريخ 21/5/1988.

العدد 1104 - 24/4/2024