يا بلدان الجنوب اتحدي!

يونس صالح:

كلمة بروليتاريا كلمة قديمة، وكانت تعني عند الرومان (الأجانب عن المدينة)، إذ كان الأجانب في تلك البلاد محرومين من كثير من الحقوق التي كانت المواطنون يتمتعون بها، فلما جاء كارس ماركس، ورأى أن عمال الصناعة محرومون من الحقوق التي تتمتع بها طبقة ملاك المصانع، أطلق عليهم اسم (البروليتاريا).

ورأى ماركس أن البروليتاريا هم وقود الحروب بين الدول، وأن الأغنياء هم وحدهم المستفيدون من هذه الحروب، فالأغنياء هم المنتصرون دائماً، والبروليتاريا هم المهزومون دائماً.. وبعد أن شرح ماركس رأيه، قال كلمته الشهيرة (يا عمال العالم اتحدوا)، حتى يتحول العداء الذي يفتعله الأغنياء بين الدول، إلى ثورة على الأغنياء داخل كل دولة.

وانتهت الحرب العالمية الثانية، وتقدمت التكنولوجيا تقدماً كبيراً، تكنولوجيا الإنتاج، وتكنولوجيا وسائل التوجيه والإعلام، واكتشف أصحاب رؤوس الأموال أن رفع أجور العمال يخدم مصالحهم أكثر مما يضرّ بها، بشرط أن يذهب أكثر هذه الأجور في شراء المنتجات التي تريد الصناعة التي يملكها الرأسماليون بيعها، واكتشفوا أيضاً أن العمال يخدمون صناعتهم كمستهلكين كما يخدمونها كمنتجين، فوافقوا على تخفيض ساعات العمل، بشرط أن تكرس باقي الساعات في الاستهلاك المطلوب.

ساعدت التكنولوجيا الجديدة على مضاعفة الإنتاج، ورفع أصحاب المصانع أجور العمال، وأنقصوا ساعات العمل، واستخدموا التقدم الكبير في تكنولوجيا التوجيه والإعلام للتأثير على الطبقة العاملة، حتى لا تتجه أجورهم إلا لشراء ما يريد أصحاب المصانع بيعه، وحتى لا تذهب أوقات الفراغ إلا فيما يريد أصحاب الصناعة أن تذهب.

زال كثير من سخط العمال، واختفى إحساسهم بالحرمان، وخاصة في بلدان الغرب والشمال، ويئس قادة الثورات من تجنيد العمال للثورة ضد أصحاب الأموال، وفجأةً قام من يقول إن عمال الصناعة لم يعودوا هم بروليتاريا العصر الحديث، وإنما البروليتاريا الجديدة هم الطلبة.

أعلن الطلبة والشباب متأثرين بكتابات الفلاسفة من أمثال ماركوز وغيره، أن العمال قد فقدوا ثوريتهم، وأن كارل ماركس لو كان حياً في وقتنا هذا لقال: (يا طلبة العالم اتحدوا!).

يقول ماركوز إنه (إذا كان العامل في الماضي قد فقد حريته في قسوة العمل، فقد فقدها في الحاضر في سعيه المسعور للحصول على السلع التي يريد أصحاب المصانع بيعها. لقد نجحت وسائل الإعلام الحديثة في تحويل السؤال الذي كان يشغل بال الإنسان في الماضي (ماهي السلع التي أحتاج إليها؟)، إلى سؤال جديد (ما هي السلع التي يجب عليّ أن أشتريها)؟ وهو سؤال أدخلته في رؤوسهم وسائل الإعلام الحديثة بطرق في غاية من الخبث والشيطانية، بعد أن أخرجت السؤال الأول من الرؤوس.

لقد طالب زعماء ما أسموهم بروليتاريا العصر الحديث (الطلبة) برفض القيم الحديثة لمجتمعاتهم، وبالثورة على الفكرة السائدة التي تقول بأن الاستهلاك بأي ثمن وبأي شكل هو غاية الغايات.

ويبدو أن السياسيين كانوا دائماً أمهر كثيراً من الفلاسفة ومن الثوار، ذلك لأنهم أقدر الناس على اللعب بالقوى السائدة في مجتمعاتهم، وعلى توجيه نشاط هذه القوى لمصلحتهم، فما إن أحسوا بخطورة الدعوة الجديدة، حتى وضعوا العمال والطلبة معاً في ساحة قتال واحدة، وخططوا لحرب ضروس بين الفيلقين، فدسوا بين الطلبة من اتهم العمال بأنهم برجوازيو العصر الحديث، لا يفكرون إلا في اقتناء السلع والبضائع، ودسوا بين العمال من وصف حراك الطلبة بأنه حراك المدللين الناعمين، الذين لا يحملون من الأسئلة إلا الكلمات، فشغلوا كل فريق بالآخر، لينشغل الاثنان عن العدو الأساسي.

هذا عن فلاسفة الغرب، وعن ثوراته المتعثرة، فماذا عن البلدان النامية؟ أعتقد أنه لو ظهر الآن فيلسوف من بين أهل الجنوب، وسمحوا له بالكلام، لقال إن البروليتاريا (بمفهوم الفقراء) الجديدة في عصرنا ليست إلا الجنوب وسكانه، المشغولين بقتل بعضهم بعضاً، بأسلحة مستوردة من بلاد الغرب والشمال، في حرب يخططها هذا الغرب والشمال. لو ظهر هذا الفيلسوف وسمحوا له بالكلام لنادى: (يا مستهلكي السلاح اتحدوا!). إن جزءاً كبيراً من رفاهية أهل الغرب والشمال هو نتيجة سياسة تصدير الأسلحة إلى الجنوب.

ولضمان استمرار هذه السياسة، زرع أهل الغرب في كل منطقة من مناطق الجنوب بؤرة مسلحة تسليحاً حديثاً، تقوم بتمثيل دور العدو اللدود للمنطقة كلها، ثم يتم إشعال روح العداء والمبالغة في وصف شراسة هذا العدو، الدخيل على المنطقة حتى تضحي البلاد المحيطة بكل ما لديها من أجل استيراد الأسلحة لمواجهة هذا العدو المجرم اللئيم.. وتستمر هذه اللعبة، وكما وضع السياسيون من أهل الغرب كلاً من العمال والطلبة في ساحة قتال واحدة، قضوا على أي احتمال للثورة، وضع صانعو الأسلحة من أهل الغرب أيضاً كل بلدان الجنوب في ساحات قتال، كل فريق يحارب جاره، فضمنوا بذلك تجارة مستمرة في السلاح، ورخاء دائماً للغرب.

لقد انتقلت كلمة (البروليتاريا) من (الأجانب) إلى (العمال) إلى (الطلبة) إلى سكان الجنوب، وإذا كان الفلاسفة في منتصف القرن التاسع عشر وكامل القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين قد ظهروا في الغرب، ليطلبوا من العمال، ثم من الطلبة والشباب أن يتحدوا، فلابد للفلاسفة الجدد أن يظهروا بيننا، وأن يكرروا مئة عام: يا أيتها الشعوب المقهورة ويا مستهلكي الأسلحة اتحدوا!

العدد 1104 - 24/4/2024