في رحيل الرفيق عدنان حدادين

عبد الرزاق دحنون:

الرفيق عدنان حدادين الذي رحل عن الدنيا وأهلها قبل أيام، كان لي شرف التعرّف إليه من خلال ما يكتبه ابنه البكر (غسَّان) في صفحته في (الفيسبوك). عدنان حدادين هذا الرجل الفاضل المُناضل الذي درس الصيدلة في جامعة دمشق العاصمة السورية في خمسينيات القرن العشرين، وكان شيوعياً يُناضل في صفوف الحزب الشيوعي السوري، هو بكل تأكيد من الشخصيات المهمة والمميزة التي تمتد كالجسور على دروب حياتنا. إنهم جسور العقل والروح، جسور تربط بين أجيال البشر وتربط العالم من حيث المسائل الأخلاقية الأساسية للحياة العامة على كوكب الأرض، جسور يجري عبرها تراكم القيم والمعارف العلمية والروحية. هذه الجسور تشدُّنا إليها كل يوم لنقابل الماضي وندمجه مع الحاضر ونبحث في المستقبل عن أجوبة لأعقد قضايا الحياة السياسية والاجتماعية وحتى الشخصية منها كي نتعلم ونحلم ونحب ونفرّق بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وننخرط في نضال عنيد ضد أولئك الذين يريدون زعزعة أسس هذه الجسور وإغلاق مداخلها أمام الناس ويريدون بالتالي بذر الشكوك بيننا وبين قيم الخير فينا.

الرفيق عدنان حدادين من أولئك الذين تجاوزوا زمانهم في نضال حاسم لا هوادة فيه من أجل حرية الإنسان وسعادته، من أجل ترسيخ المثل العليا الجديدة للوجود البشري. يقول غسّان في حديثه عن والده: نحن عائلة ورثنا عن والدي بعض صفاته وليس كلها، والدي كان إنساناً فريداً مميزاً بكل ما تحمل الكلمات من معنى، فقد ولد في قرية يعمل أهلها في الفلاحة والزراعة، عاش طفولة قاسية ومع ذلك كان ذكياً فطناً في تلك المرحلة العمرية المبكرة، قوي الملاحظة، لذلك رأى الظلم مجسداً في فقراء الناس، فعاداه، ووقف بوجه الظالم قدر ما يستطيع، وأفلح قولاً وفعلاً في أن يكون نصيراً للذين يعانون الفاقة والتهميش في المجتمع آنذاك. كان في دراسته طالباً متفوقاً، وخاصة في المواضيع العلمية، سواء في مراحل دراسته في مدرسة السلط أو في جامعة دمشق.

اهتمَّ والدي بشؤون صغار الفلاحين مذ كان صغيراً، لأنه رأى الظلم الطبقي الذي يقع عليهم من العائلات الإقطاعية ومُلاَّك الأراضي ومنها عائلته، فانحاز إلى تلك الطبقة المسحوقة، يدافع عنها وينصرها كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. يرفض أن يرى الفلاح والعامل البسيط يعاني من الظلم الاجتماعي، وكنت أسمع قصصاً كثيرة عن أحداث وقعت معه وهو ما يزال في ريعان الشباب طالباً جامعياً. في أحد تلك الأيام كان عائداً إلى قريته في إجازة من الجامعة السورية، وفي الطريق كان يرى المحتاجين ومعاناتهم، فجعل ذلك المشهد يحرك الوعي الطبقي في نفسه، فتبرع بما يفيض عليه من ثياب، بحيث وصل إلى أهله بما يستر جسده فقط. سأله والده مستغرباً: أين ملابسك؟ قال: تبرعتُ بها للمحتاجين من الخلق في الطريق.

في القرية كان والدي يُحب الجلوس مع الفلاحين، يشاركهم أكلهم وشربهم وهموم حياتهم. وكان جدي يعتمد عليه في موسم حصاد الغلال في الصيف، هكذا نما وعيه الطبقي واستقام، فانضمّ إلى الحلقات الماركسية في الجامعة السورية في خمسينيات القرن العشرين، وصار شيوعياً سورياً هو القادم من (المملكة الأردنية) وقد نال حظه من السجن، فاعتقل في أقبية سجون النظام السوري تلك الأيام، ولأنه كان أردنياً قرر النظام السوري تسليمه إلى بلده فانضم فيما بعد إلى صفوف الحزب الشيوعي الأردني.

أذكر هنا حادثة طريفة: حدث أثناء تسليمه إلى المملكة الأردنية أن قامت إذاعة (لندن) من خلال متابعتها حملة (مكافحة الشيوعية) بنشر خبر القبض على أحد الشيوعين متخفّياً بزي قسّيس (رجل دين مسيحي)! وقد سألتُ والدي هل فعلاً كنت متخفياً في زي قسيس؟ ضحك_ أضحك الله سنّكم_ وقال: كلا، وإنما جاءت المصادفة أنني كانتُ مرتدياً (جاكيت أسود على قميص أبيض) فظنوا بأنني متنكر بزيّ قسيس، وشاع الخبر.

يُتابع غسَّان القول: بقي والدي معتقلاً إدارياً بتهمه الشيوعية -وقد كانت تهمة تلك الأيام- في سجن الجفر الصحراوي. تعلَّم في سجنه اللغة الفرنسية مع أنه لم يكن يتكلمها، وكان مع رفاقه يبتكرون في السجن طرق عيش مُبدعة، فقد وجدوا طريقة مبتكرة من أجل (تفقيس) بيض الدجاج وتربية (الصيصان) أذهلت إدارة سجن جفر الصحراوي. بقي أبي سجيناً سياسياً حتى صدور العفو العام سنة 1965 فخرج من المعتقل وفُرضتْ عليه الإقامة الجبرية.

من الأمور التي تستحق الذكر وكانت مهمة في حياة والدي عندما تقدم إلى خطبة والدتي، وقبل أن تقبل أمي الزواج منه كان البعض من أهلها ومحيطها يسألونها لماذا تريد الارتباط بشيوعيِّ قد لا يكون له مستقبل، وهي خريجة الجامعات البريطانية؟ ولكن والدتي كانت ترى غير ذلك، كانت ترى فيه إنساناً مختلفاً عن محيطه، مميزاً بشخصيته القوية المُبدعة. وهكذا قررت الارتباط به مدى الحياة وبناء عائلة كنّا أنا وإخوتي نتاج هذه العائلة المتواضعة المتعلمة.

أذكر عندما كنت تلميذاً في المدرسة بدأت أشاهد وأراقب وأستمع إلى والدي في اجتماعه مع رفاقه في البيت أو في الصيدلية، وبدأت عندي بدايات التعلق بالفكر الماركسي، وحينذاك بدأت الاستماع إلى إذاعة (السلام والتقدم) من موسكو. وأكثر من ذلك، كنتُ على يفاعتي أُراسلهم عبر البريد بمشاركات صغيرة وأشعر بفرح غامر عندما يُذكر اسمي من موسكو. ونشأت عندي رغبة عارمة بالدراسة في الإتحاد السوفييتي وهذا ما كان.

يقول غسَّان: قبل فترة سألت والدي عن رفاقه الشيوعيين سواء من توافق معهم سياسياً أو اختلف معهم من الجيل المؤسس كسلمان حنا وفايز بجالي ونسيم طوال وسليمان نجاب وفائق وراد وسعدي ورشدي شاهين وعيسى مدانات ويعقوب زيادين وأميل عواد وفؤاد نصار. فكان يقول لي إنه ما يزال يتذكرهم خاصة سلمان حنا المقرب شخصياً لوالدي. ويقول هؤلاء عظماء حتى وإن اختلف مع بعضهم. أعجبتني تلك الروح التوافقية بعد كل تلك المسيرة الحافلة بالانتصارات والإخفاقات. لقد تعب جسد والدي فرحل قبل أيام عن الدنيا وأهلها. ولكن مسيرته الظافرة ستعيش معنا، تُهدينا سواء السبيل، من خلال العلامات التي تركها على دروب الحياة. ودروب الحياة تصنعها الأقدام كما يُقال. لذلك ستبقى (خبطة) أقدام الرفيق عدنان حدادين (هدّارة) يُسمع صدى صوتها دائماً.

العدد 1104 - 24/4/2024