الفقر الذي يعضّنا.. وسيعضّهم

حسين خليفة:

الفقر لغةً يعني الحاجة والعوز، أما اصطلاحاً فهو عدم القدرة على الحصول على احتياجات الحياة الأساسيّة كالسكن والطعام والملبس والتعليم والصحة …الخ من حاجات الإنسان الأساسية وحقوقه الإنسانية طبعاً.

والفقر ظاهرة عالمية موجودة في سائر المجتمعات عبر مراحل تطورها وعلى اختلاف الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية الحاكمة فيها، ويعتبر الحدّ منه أو القضاء عليه هدفاً معلناً للأفكار والفلسفات والأديان والحركات الإصلاحية والثورية.

فتجد الفقر في الأنظمة الطبقية ظاهراً بشكل فاقع ومستفز و(مُبرّر) بمنطق النظام الاستغلالي القائم على استثمار وسائل الإنتاج والمنتجين من قبل مالكي هذه الوسائل، حيث التفاوت الكبير بين الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج، والأخرى التي لا تملك سوى قوة عملها (العاملين بأجر)، ويؤمّن استمرار ونمو فضل القيمة في النظام الرأسمالي تحديداً زيادة مضطردة في هذا التفاوت، وهو ما سيكون المعول الذي يهدم النظام الاستغلالي كما تنبأ بذلك منظرو الماركسية الأوائل، ذلك أن (الرأسمالية لا تحفر قبرها فحسب وإنما تُهيئ من يقوم بدفنها، الطبقة العاملة).

بينما في الأنظمة الاشتراكية التي خاضت تجربة تاريخية امتدت لسبعين عاماً لها ما لها وعليها ما عليها، فقد أصبح الفقر بمعنى افتقار الإنسان إلى الحاجات الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة الكريمة ظاهرة نادرة بفضل ملكية جميع وسائل الإنتاج للدولة التي احتكرت، إضافة إلى وسائل الإنتاج، التفكير والحقيقة والماء والهواء أيضاً.

لكن بسبب البيروقراطية الحزبية والجمود والتكلّس تحول الفقر، أو كاد أن يتحول، في العقود الأخيرة من عمر التجربة القصير تاريخياً إلى ظاهرة عامة، فلم يتحقق مجتمع الوفرة والعدالة كما حلم به مؤسسو الماركسية، وإنما نشأت طبقة من أباطرة القيادة الحزبية والحكومية الذين يعيشون في أبراجهم العاجية، فيما بقي السواد الأعظم من العاملين الذين يعيشون على الكفاف يحلمون بالهروب من (جنة) الاشتراكية الى (جحيم) الرأسمالية، إضافة إلى مسألة هامة ولا يمكن إغفالها وهي فكرة (أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، ففكرة الديمقراطية والحريات الفردية تحولت إلى كفر ومروق و(انحراف برجوازي) لدى حكّام هذه الأنظمة، وجب قمعها ومحاربتها بشتى الوسائل، وهو ما فاقم أزمتها وكان عاملاً رئيسياً في انهيار التجربة.

ثم نأتي إلى أنظمة العالم الثالث الذي ابتلي بدكتاتوريات عسكرية غالباً استلمت الحكم بعد الاستقلال تحت شعارات قومية أو اشتراكية، أو الاثنتين معاً، مُقيمة أنظمتها الاستبدادية الفردية أو العائلية تحت دخان كثيف من الشعارات والأحلام التي تُلقمها للناس منذ طفولتهم حتى مماتهم، ويمكن تسميتها بالأنظمة (الاشترارأسمالية) حيث أخذت من الرأسمالية نظامها الاستغلالي القائم على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، فحلَّ محل الرأسماليين قادة الحزب الحاكم والأجهزة الأمنية أو أبناء العائلة المقدسة، وأخذت من الاشتراكية إلغاء الحياة السياسية واحتكار الحقيقة ومنع قيام أي مؤسسات منتخبة أو إعلام حر.

أو حُكمت بأنظمة ملكية وراثية احتكرت السلطة والثروة والمجتمع، لكنها كانت للأمانة أقلُّ إيلاماً من سابقاتها، إذ إنها مارست كل ما تمكّنت منه من متع الحياة والرفاهية وشهوة التملك، وتركت للناس ما يقتاتون به ويعيشون حياة أقرب إلى بني البشر، أما حكومات العسكر فقد فتحت (بلاليع) عملاقة ابتلعت البلد بما فيها تاركة للناس الهواء وضجيج الشعارات.

وهناك استثناءات قليلة من أنظمة برلمانية هشّة بسبب هشاشة البنية الاقتصادية لمجتمعاتها حيث لا توجد طبقة رأسمالية مكونة وناضجة، وإنما رأسماليات طفيلية ريعية تابعة.

كنا في موضوع الفقر ودخلنا في التحليل السياسي والتاريخ والإيديولوجيات، لكن الفقر كظاهرة هو الابن الشرعي لهذه الحالات التاريخية والمجتمعية وتمظهراتها السياسية اليومية.

وبعيداً عن كل التنظير والفذلكة اللغوية نأتي إلى سورية التي نسكنها وتسكننا رغم كل الآلام التي عشناها ونعيشها فيها، حتى بتنا نُردّد قول الشاعر إلياس أبو شبكة:

ويا وطناً بالحب نكسو أديمه

فيحجب عنا رضاه ويمنع!

لقد بلغ الفقر الأسود، الإملاق، الجوع، البؤس، وكل ما هنالك من مفردات لا تكفي لوصف الحالة السورية، بلغ مبلغه، وأصبحنا في أسفل السلم بالنسبة لمعيشة الفرد، وتُجمِع جميع الإحصاءات المغرضة وغير المغرضة بأن الشعب السوري بمجمله يستحق المعونات والصدقات، وهو يدخل تحت خط الفقر (قشّة لفّة) بل وتحت حدِّ الجوع، والقلّة القليلة التي تمارس بطرها وفجورها في المطاعم والملاهي والمولات داخل البلاد وخارجها ليسوا سوريين، نعم ليسوا سوريين.. هؤلاء استغلوا دماء الناس وآلامهم خلال سني الحرب، وراكموا ثرواتهم من النهب والاحتكار والتعفيش والمتاجرة بملفات المعتقلين والمخطوفين واللاجئين والنازحين والمطاردين والممنوعين وأحلام الناس بالتغيير والحياة الأفضل.

إنهم ليسوا سوريين من يمارسون هذا الفحش العلني والناس جوعى وصامتون ومقموعون، وستلفظهم سورية قريباً.. قريباً جداً.

العدد 1105 - 01/5/2024