غباء أم ذكاء سياسي؟

أحمد ديركي:

يحكى الكثير عن (الذكاء الاصطناعي)، إلا أنه يندر الحديث عن (الغباء الاصطناعي). فهل يعني هذا أن (الغباء) لا يوجد في هذا الحقل؟ سؤال يندر طرحه ويندر أيضاً البحث عن إجابة له!

القضية هنا لا تتعلق بالغباء الاصطناعي أو الذكاء الاصطناعي، بل القضية تتعلق بالإنسان. فإن كان هناك فعلاً (ذكاء) اصطناعي أو (غباء) اصطناعي، فهما نتاج الإنسان. أي أن صفة الغباء وصفة الذكاء من صفات الإنسان، في محاولة منه لتمييز فرد عن آخر، ليصل في نهاية المطاف إلى تمييز شعب عن شعب، أو قوم عن قوم، وهنا ندخل في مسألة (العنصرية) في التمييز.

حتى تاريخه لا يوجد تعريف موحد للغباء، كما لا يوجد تعريف محدد للذكاء. فعلى سبيل المثال هل يمكن اعتبار الجريمة الكاملة، بمعنى عدم المقدرة على معرفة المجرم، عملية قام بها (مجرم) ذكي؟ وإذا أُلقي القبض عليه لارتكابه الجريمة حينئذٍ يكون (المجرم) غبياً؟ فيقاس هنا الذكاء والغباء نسبة إلى المقدرة على اكتشاف الجريمة أو عدم اكتشافها!

أما فيما يتعلق بالغباء أو الذكاء السياسي ففي أحيان كثيرة تكون الأمور واضحة وجلية، طبعاً إلا لمن لا يريد الاعتراف بها. هنا مسألتا الذكاء والغباء تتعلقان مباشرة باستخدام المصطلحات المحددة، فيتم الخلط في الاستخدام من قبل السياسيين، وغيرهم من (الخبراء) المأجورين من أجل عدم قول الحقيقة.

ما دام عالمنا العربي في حال دائم من النزاعات، فهناك مصطلحات محددة تعبر عن كثير من حالات ما يحدث فيه، إلا ان السياسيين و(الخبراء) المأجورين يستخدمون هذه المصطلحات بشكل خاطىء. والخطأ هنا إما أن يكون مقصوداً فيعبر عن ذكاء، أو غير مقصود فيعبر عن غباء.

النزاعات تولد حالاً من (انتقال) غير المقاتلين، أي من هم غير منخرطين في النزاع العسكري، من مكان يشهد نزاعاً عسكرياً إلى مكان هادىء، بمعنى آمن. ولطبيعة الانتقال هنا تعابير واضحة ومحددة.

ولأن العالم حالياً يعيش في ظل دول، بالمفهوم الحديث، أي دول ذات حدود سياسية معترف بها دولياً وكل من يقيم فيها يحمل جنسية هذه الدولة. طبعاً هناك أمور أخرى يجب توفرها في مسألة مقاربة الدولة ومفهومها، ولكن ليس هذا مكانه، فهنا أخذنا فقط مسألة الحدود والجنسية.

في حال نشوب النزاعات داخل الدولة، أو دولة مع دولة أخرى، ينتقل قسم ممن يقيمون في منطقة النزاع إلى مكان آمن داخل دولتهم، لأنهم يحملون جنسيتها، فيطلق عليهم اسم (نازحون). ومن ينتقلون إلى خارج الحدود السياسية لدولتهم، أي الانتقال إلى دولة لا يحملون جنسيتها يطلق عليهم اسم (لاجئون).

ما الذي يحدث؟ لنأخذ لبنان مثلاً.

في لبنان من يستمع إلى التصريحات السياسية لرجال السياسة فيه يتوه ما بين (لاجئون سوريون) و(نازحون سوريون). فهذا السياسي يتحدث عن النزوح السوري، وذاك السياسي يتحدث عن اللجوء السوري! فماذا يعني هذا؟

من يقول إن السوريين نازحون، فهذا يعني أنه لا يعترف بلبنان كدولة مستقلة بالمفهوم الحديث، لأن النزوح كما سبق، عملية انتقال من يحمل جنسيه دولة داخل دولته!

ومن يقول إن السوريين لاجئون، فهو يستخدم المصطلح بشكل صحيح في الظاهر ولكن في الباطن يستخدمه بشكل عنصري! كيف؟

الشكل الصحيح للاستخدام يكمن في التعريف القائل إن اللاجئ هو من ينتقل من دولته إلى دولة أخرى، أي الانتقال إلى دولة لا يحمل جنسيتها لأسباب متعددة تهدد حياته للخطر، سواء أتى الخطر من نزاعات أو من كوارث طبيعية. وبهذا ينطبق مفهوم (اللجوء) على كل السوريين الموجودين في لبنان، فاستخدم هذا السياسي المتحدث عن اللجوء السوري بشكله الصحيح. في المقابل يعلم هذا السياسي أن لبنان لم يوقع على اتفاقية اللجوء العالمية، أي أن لبنان كدولة لا يعترف بوجود اللاجئين فيه! وبهذا ينكر هذا السياسي أي حق للاجىء على أرض لبنان بغض النظر عن الجنسية التي يحملها اللاجىء. وهذا ما يمكن أن يقال عنه شكل من أشكال العنصرية. فعدم الاعتراف بوجود لاجىء على أرض لبنان، رغم وجود اللاجىء فيه، أمر عنصري.

وتصبح القضية أكثر تعقيداً وخطورة عند التحدث عن اللاجئين الفلسطينيين، ليس في لبنان أو سورية أو العراق، أو في أي مكان آخر في العالم، بل عند التحدث عن اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين! فكيف يمكن للفلسطيني أن يكون لاجئاً في فلسطين؟

يتضح الغباء أو الذكاء، حول القضية الفلسطينية، عند سماع الأخبار أو قراءة الصحف… أو ما يتبع من تصريحات سواء أتت من سياسيين أو (خبراء) مأجورين. على سبيل المثال كثيراً ما نسمع عند حدوث نزاعات داخل فلسطين، ما يقال في نشرات الأخبار وغيرها، (حدوث أعمال عنف داخل مخيم جنين)، على سبيل المثال، أو (اقتحام قوات العدو الصهيوني لمخيم اللاجئين في جنين).. وهنا من خلال تعابير مثل (مخيم لاجئين) للفلسطينيين في فلسطين يتحول الفلسطيني إلى (لاجئ)، بمعنى أنه ذاك الكائن الذي لا يحمل الجنسية الفلسطينية، أي أن فلسطين ليست دولة فلسطينية، وأن الدولة هي دولة الكيان الصهيوني! فهل تستخدم وسائل الإعلام العربية وسياسيوها تعابير كهذه للقول إن الكيان الصهيوني دولة قائمة، وفلسطين لا وجود لها، ويتحول الفلسطينيون بذلك إلى شعب لاجئ في أرضه؟ وهنا يطرح السؤال لمن يقول في خطابه: مخيمات اللجوء الفلسطيني في فلسطين، هل تستخدم هذا المصطلح عن ذكاء أم عن غباء؟

كي لا يبقى الأمر مجرد توصيف يقول موقع (وفا) وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، وهي وكالة فلسطينية رسمية، وتعبر عن موقف سياسي واضح المعالم، بالنص، في تعريفها عن (مخيم جنين): (وحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يبلغ عدد سكانه في منتصف العام 2023 نحو 11674 لاجئ).

وهنا يمكن القول إن كان هذا الاستخدام لمصطلح (لاجئ) في هذا النص ناجماً عن ذكاء، فلا أهلاً ولا سهلاً بـ(ذكاء) اصطناعي كهذا، وان كان الاستخدام ناجماً عن (غباء) أيضاً فلا أهلاً ولا سهلاً بهذا الغباء الذي يضيع فلسطين. والأمر عينه ينطبق على كل من يستخدم المصطلحات في غير مكانها، سواء كان ناجماً عن ذكاء سياسي أو غباء سياسي.

العدد 1104 - 24/4/2024