عمّال اليوم ما بين نقابات غير مستقلة وحقوق منسيّة

إيمان أحمد ونوس:

حين اعتُبر الأول من أيار عيداً عالمياً للعمال في كل أرجاء الأرض، كان قد جاء على خلفية أحداث دامية ذهبت بالعديد من العمال الذين طالبوا بحقوقهم الأساسية في العمل وتحديد ساعاته، وكذلك في الأجور التي يجب أن تتناسب وجهودهم المُضنية.

واليوم، بعد مرور أكثر من مئة عام على ذلك، نجد أن الطبقة العاملة في مختلف أرجاء العالم، ما زالت تُعاني من إشكاليات وهموم متعددة ومتنوعة ربما تكون متناقضة مع بعض الإشكاليات حينذاك، فقد كان أول المطالب تحديد ساعات العمل، أما اليوم، فإن البطالة خيّمت على حياتهم عالمياً ومحلياً، وتركتهم في مهبّ رياح الفقر والجوع والعوز والتخلّف والأمية، وذلك بسبب توحّش رأس المال وقوانينه الظالمة القائمة على مبدأ الغاية تُبرر الوسيلة، في سعي حثيث لتكديس الأرباح على حساب حياة ملايين الفقراء من العمال، ممّا أفسح المجال رحباً أمام بعض الفئات منهم للانضواء تحت مظلة الإرهاب وامتطاء صهوة الجريمة والانتقام، لاسيما في ظلِّ الحروب التي تشنها الدول الرأسمالية بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل تجاوز أزماتها الاقتصادية الخانقة.

وليس بخافٍ على أحد ما تُعانيه الطبقة العاملة السورية منذ العقود السابقة للحرب، وذلك بسبب تراجع الدولة عن دورها في حماية حقوق هذه الطبقة ومكتسباتها، وعن تقديم كل ما يمكنها من أجل الارتقاء بها، لتكون بالفعل السند والدعامة القوية لأجل اقتصاد متطور ومنافس. وكذلك في ظلِّ الانفتاح الاقتصادي المشوّه الذي قاد إلى توقف العديد من المعامل العامة والورش الخاصة عن الإنتاج بسبب عدم الحماية وسياسة الاستيراد غير المسؤولة، ما دفع بالأمور إلى ما شهدته البلاد منذ أكثر من عشر سنوات من حرب أتت على ما تبقى من إمكانية لعودة تلك المنشآت إلى العمل، بل والقضاء على معامل ومنشآت أخرى سحقتها الحرب وتجّارها الذين استثمروا الآلات في الأسواق المجاورة، وما دفع كذلك إلى ما تشهده البلاد والطبقة العاملة حالياً من موت سريري بسبب تهميش القطّاع العام (الصناعي والزراعي والتجاري) ومستوى أدائه وإنتاجيته التي من المفترض أن تكون منافساً حقيقياً وفاعلاً اليوم أمام سطوة التجّار المتحكمين بمقاليد السوق واحتياجاته وأسعاره التي التهمت المداخيل والأجور بشكل مرعب، حتى لم تعد تلك الأجور تصمد لأكثر من يوم أو يومين كحد أعلى أمام طغيان الغلاء وجشع السماسرة، وسياساتٍ تتجاهل هذا الواقع عن عمد وتشريعات تصبُّ في مصلحة كبار المحتكرين والتجّار والسماسرة، في الوقت الذي يعلنون كل يوم عن عدم قدرة الحكومة على رفع الرواتب والأجور بسبب انكماش موارد الخزينة المركزية ، إضافة إلى السمفونية التي باتت مشروخة (العقوبات الدولية) وكذلك سرقة النفط السوري من قبل قوات الاحتلال والتحالف الغربي. والاكتفاء بحلول لا تفي ولا تغني عمّا يعيشه العامل سواء في القطاع العام أو الخاص ولا حتى العاملين بأجر يومي، حلول من قبيل مثلاً استيراد البصل وتوزيعه عبر منافذ السورية للتجارة، والمؤسف هنا أننا بلد يُنتج البصل بكميات تسمح بتصديره إلى مختلف بلدان العالم لجودته ومقاومته. وكذلك باقي الحلول الإسعافية الهشّة التي بات الجميع يعرفها، مثلما تعرف الحكومة وتعلم أن الرواتب حتى ولو ارتفعت مئة بالمئة لا يمكنها الصمود، فالعديد من العاملين بالحقل الاقتصادي من خبراء وسواهم كانوا قد أعلنوا أكثر من مرة أن الرواتب يجب أن تكون أكثر من مليون ليرة شهرياً حتى تتمكّن العائلة السورية من تأمين أبسط الاحتياجات الأساسية لأفرادها من غذاء وتدفئة وتعليم واستشفاء وسواها من احتياجات، وفي هذا في تجاوز واضح للدستور الذي نصَّ في الفقرة الثانية من المادة أربعين على:

2- لكل عامل أجر عادل حسب نوعية العمل ومردوده، على أن لا يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيُّرها.

ولنقف عند الجملة الأخيرة ومغزاها العميق في ظلِّ ظروفنا الراهنة (الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيّرها.) لأن الحكومات التي وجدت مختلف الأعذار لتبرير عدم رفع الرواتب والأجور بما يتناسب وواقع السوق اليوم، لم تلتفت ولا لبرهة إلى ما جاء في تلك الفقرة، في تجاهل وتجاوز خطير للدستور.

ورغم مرارة وقسوة هذا الواقع بالنسبة لعموم السوريين والعمال منهم بخاصة، فإن نقابات العمال ما زالت غير قادرة سوى على إصدار البيانات وإلقاء الخطابات الرنّانة والشعارات الخاوية من أي معنى وهدف، لأنها تخلّت هي الأخرى عن مصالح أعضائها، فأصبحت منظمات سياسية محضة بعيدة كل البعد عن غاياتها وأهدافها الأساسية التي قامت من أجلها، ألا وهي حماية الطبقة العاملة ومكاسبها التي بدأت تتسرب وتنهار أو تختفي شيئاً فشيئاً، وصارت الطبقة العاملة السورية في مهب الريح والضياع وحتى التلاشي، باعتبار تحوّل القيادات النقابية إلى قيادات بيروقراطية فقدت خلال مسيرتها ثقة من حمّلوها ضمان أمانهم ومستقبلهم، وهذا ما أدى إلى خسارة دور النقابات المُؤثّر والهام سواء على مستوى حقوق العمال أو على مستوى القضايا الوطنية الهامة، وغدت تلك القيادات مجرد أداة سياسية في يد الحكومات التي تقف غالباً ضدّ مصلحة العمل والعمال.

وهنا لا بدّ أن نتساءل: هل بقي من معنىً لوجود تلك النقابات؟ وهل من قيمة أخلاقية- حقوقية للأول من أيار بما يليق بتاريخ الطبقة العاملة السورية وحركتها النقابية؟؟

العدد 1104 - 24/4/2024