توهّم الحقيقة.. الحقيقة

أحمد ديركي:

في أحيان كثيرة يكون المجهول أكثر ظهوراً مما هو معتاد عليه في الأمور الواضحة. ففي الوضوح يكمن الغموض في المبهر للنظر، فيتيه النظر عن رؤية ما يجب أن يراه بوضوح ويتيه في غياهب الوهم الغامض غير المرئي.

تيه يظن فيه الإنسان أنه قد شهد حقيقة الأمور بتجلياتها الواضحة، بينما كل ما يراه مجرد وهم تيه النظر عن رؤية حقيقة الأمور.

وما أكثر الأمثلة الدالة على مدى تيه النظر عن رؤية الحقيقة والظن بأن ما يراه الإنسان هو الحقيقة. ومن أول هذه الأمور مسألة تسطح الأرض.

مهما امتد الأفق في مجال النظر لن يستطيع نظر الإنسان أن يلحظ بدايات تحدّب الأرض لكرويتها. فظن أن الأرض مسطّحة، ولا يمكنها أن تكون كروية. إلا أنه عندما لحظ أن هناك أموراً كثيرة، في مجال الطبيعة، تشير إلى عدم كروية الأرض، حينئذٍ انتابه الشك فيما كان يتوهمه من وهم تسطّح الأرض. وكان من أبرز هذه الأمور وأكثرها وضوحاً أن الشراع أول ما يظهر من السفينة الشراعية القادمة من بعيد ومن ثم يبدأ ظهور جسم السفينة تدريجياً، والعكس صحيح عند رحيلها. أمر يستحيل حدوثه لو كانت الأرض مسطحة.

حينئذٍ فكر الإنسان في الأمر وعمل على توضيح ما هو جليّ، لأنه يتناقض مع ما هو متوهم على أنه جلي. فدخل الفكران، الفكر المتفكر في الأشياء والفكر المتوهم بأنه يعرف الحقيقة، في صراع مرير لأنه يستحيل وجود الحقيقة وتوهم الحقيقة في الوقت عينه. أي يستحيل أن يوجد الضدّان في المكان نفسه والزمان نفسه. كما يستحيل أن يكون لون الجدار أبيض وأسود في الوقت عينه. هناك احتمال وجود خليط من كل منهما، ولكن لا بد لأحد الأضداد أن يطغى على الآخر.

وكل متتبّع للأحداث السياسية في عالمنا العربي يتيه في خضم هذا الصراع ما بين توهم الحقيقة والحقيقة، لأن توهم الحقيقة أقوى حضوراً من حضور الحقيقة. فقد اعتدنا في العالم العربي على العيش في وهم الحقيقة ولم نعتد على عيش الحقيقة. وقد تكون من أبسط الأمثلة على توهم الحقيقة في عالمنا العربي مسألة ما يطرح من دخولنا إلى عالم التكنولوجيا من دون وجود بنى تحتية توفر هذا الدخول. توهم أننا نعمل ونتقاضى أجراً للعيش الكريم، بينما الأجر لا يكفي ثمن طعام لمدة أسبوع ونتحدث عن مكافحة الفساد! توهم وجود انتخابات ديمقراطية في ظل غياب الديمقراطية!

العدد 1104 - 24/4/2024