أدلـجـة الشعـوب

جعفر فرح خضور:

في واقع الحال ومع وجود تعريف يمكن القول إنه خَلص لتبيين أو توضيح (الإيديولوجيا) المصطلح اليوناني الذي صكّه الفرنسي ديستوت دي تراسي لأول مرّة والذي عرّفه بأنه: (علم الأفكار، أو العلم الذي يدرس مدى الصحة أو الخطأ في الأفكار التي يحملها النّاس، أي تلك التي تُبنى منها النظريات والفرضيات، التي تتلاءم مع العمليات العقلية لأعضاء المجتمع). ومع انتشار استعمال المصطلح أصبح لا يعني فقط (علم الأفكار) فحسب، بل النظام الفكري والعاطفي الشامل المعبِّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان.

يَصعُب بعض الشيء إيجاد تعريف مانع جامع للإيديولوجيا، فقد يكون التعريف في منحىً منطلقاً من هدف، وآخر من بنية، وثالث من ماهية، ورابع من حال، إلاّ أنَّ ما يقرّب بين تلك التعاريف هو (الفكرة) وهي مفرد (أفكار). وحديثنا سيتمحور عن الإيديولوجيا بشكلٍ عام، ننتقل بعد ذلك لدراسة الكينونة العقلية، ودور التصنيف الذي يساعد في الانسياق أو الثبات، أو النقد!

بنظرة تفكيكية لتعريف آخر، لم يُنسب لأحد، أقتبس التالي:

(منظومة متماسكة من الآراء والعقائد التي يؤمن بها شعب أو حزب أو جماعة، تُحدّد لهم كيفية التصرّف في كل مناحي الحياة (سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً) كما تطمح للانتشار وتغيير العالم من خلال مبادئها وقناعاتها التي تروّج لها).

نستشفّ من هذا أن الأفكار التي ركّبت وكوّنت إيديولوجيا أضحت منظومة، بل هي بحدِّ ذاتها منظومة لها ما لها من مُحدّدات، وعليها ما عليها من موازاة لعوامل ربما كان لها دور في رسمها، كما عليها واجباتها التي أُنشئت من أجلها. والإيمان من الطرف المتلقّي بتلك الفكرة إنما ينبثق في الغالب من استجابة لسلوك يلعب على العاطفة، وهو بطبيعة الحال سيقودنا لذكر شاهد عن (سيكولوجيا الجماهير) لاحقاً. وهو ما يؤكّده (كارل مانهايم) حين يقول: (… أسلوبها العاطفي وطبيعتها المحرّكة لسلوك الجماهير). كما تحمل طابعاً من الإلزام الذي وُشِّحَ به (المؤدلج). وهدفها بالرغبة في الانتشار إنما هو تسويقٌ لها، لخلق واقع يتماهى معها. فإذا عدنا لتعريفها مِن قبل ماركس فإنه يذكر: (وظيفة الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة الحاكمة التي تتناقض مع الطبقة المحكومة، خصوصاً في المجتمع الرأسمالي). إنما هو أيضاً تعريف إيديولوجي وضّحَ نفسه بنفسه – من وجهة نظري –  واستلهم من ذلك بأن مصبوب الأفكار هو (الفرد) وهدف الصبيب هو (الفرد أيضاً). أو لنكن أدقّ ضدَّ (فئة معينة من البشر)، فهو في خلفيته إنما يدافع عن إيديولوجيا تؤمن بضرورة محاربة الرأسمالية وقصّ أظافرها، إن صح الوصف.

تتجسّد الإيديولوجيا في ممارسةٍ مادية، يترجمها سلوك الفرد ضمن المجتمع، والدولة في إطار عملها السياسي الداخلي والخارجي. وبما أن حديثنا عن (الأدلجة) فلا بد من رؤية مقلبي الموضوع:

الأول: الذي تمارسه الدول مع شعوبها، وهو ما يمكن إدراجه ضمن تشكيل حائط صدّ في وجه مناورات الطرف الآخر (العدو).

والثاني: الذي تمارسه الأنظمة الاقتصادية العالمية وتلك التي تمرّست على إطفاء وهج التفكير لتنميط المستهدف، حتى يغدو منساقاً كالماعز نحو ما تصدّره، حتى يصل به المطاف لتحكّم الطرف الآخر فيه في أدقّ تفاصيل حياته.

يتمركز خطر (الأدلجة) الدّاهم في تعطيل قدرات الإنسان العقلية وجعل الفرد أسير فكرة مُعلّبة، وعدم رغبته في الانتقال النوعيّ المُميّز بين المعتقد والعقيدة، حتى يصل به الأمر إلى قتامة التفكير النمطي، وشحوب تكبيل أغلال التأمُل والإدراك، لأن العقل يصبح غير علمي وغير نقدي ولا يأخذ من الأشياء إلاّ ظاهرها، فالمعرفة هي من تُشكّل الوعي، والوعي هو من يؤطّرها، وهنا يكمن السؤال العميق: ما الذي أودى بالفرد ليكون ضمن قفص الإيديولوجيا؟ المعرفة أم الوعي؟  وهل الوعي يؤدلج رغم أنه في تطور مستمرّ تُحتّمه ربما ظروف محيطة؟ هنا تفقد الكلمة استقلاليتها، وتُجرّد من مضمونها العلميّ وجرأة طرحها، حتى تكون نتيجتها عدم احترام القارئ، أو المستمع، مثلاً: يُفسّر الكثيرون ما يحصل من أحداث خطيرة عصفت بالمنطقة العربية، بأنها مؤامرة، ويدرجون رأيهم بمقالاتهم وبكلامهم أنها مؤامرة. حسناً، هذا صحيح. هكذا يقول العقل المؤدلج. لكن ماذا سيقول العقل السليم المتلقّي!؟  بالطبع، لن يكتفي بالبحث عن تعريف المؤامرة، بل بمسبباتها، وأسبابها، وعوامل تغلغلها، فيبدأ بالسير الصحيح، ليصل على فرض المثال ويقول: إنَّ علم التحليل السياسي، لا يربط الأحداث الساعية لمصالح بمسبب واحد، أو لا يفرد السبب بنظرية، بل يحكي عن العوامل الداخلية التي وفّرت بيئة نضوج المؤامرة (هنا هو منطقي وعلمي).

تفرض الإيديولوجيا في السياسة، وجهان متقابلان متناقضان، وجه يدافع عن فعله، ووجه يدافع عن ردّه عن ذاك الفعل، وذلك نتيجة منطقية. فالأفكار في عقل الفرد نفسه تتصارع، فكيف على مستوى عام سياسي مصلحي!

لا يمكن إنكار الخوف المغلِّف في التردّد بطرح ما هو جديد وبما يجنح عن تلك الإيديولوجيات، فهي من جهة قد تُكفّر وتُشيطن الطرف الذي طرح وساهم، ومن جهة ثانية قد تُشكّل خرقاً واضحاً لوعي جمعي!

وهل هذا الخوف من الخرق إلّا انعكاس لإيديولوجيا الرّاغب بالطَرح؟!

تؤتي الأدلجة أُكلها إذ ما وجدت بيئة خصبة تنثر عليها بذورها مستعملةً في ذلك العديد من الوسائل، وسائل تواكب التطور الذي يخدم هدف الأدلجة، بمعنى أنها قد تخدّرك دون أن تشعر بوخز حقنتها. وأبرز وسيلة ظاهرة هي (الإعلام) والمحتوى الرّقمي بشكل عام، ولا سيما الملبي للقسم الغرائزي في الدماغ البشري، ومن هنا يمكن فهم طبيعة الانسياق دون القدرة على الوقفات المناقشة لطبيعة التحوّل، ذلك أن الدماغ البشري وفق ما يؤكّده علم الفلسفة فيه قسم غرائزي (بقاء وتكاثر). وقسم (المعلومات (Memory). وقسم (المعالجة)، وكلما ارتفع القسم ١ نحو الأعلى، انحدر القسم ٢ و٣ نحو الحضيض، الأمر الذي يرتد على الفرد بعدم القدرة على التفكير بعقلانية وتحليل الأحداث والتشبيك بين المعطيات التي أدّت لها، والربط بين مختلف المعلومات. بالمقابل، كلما انحدر القسم ١ نحو الحضيض (بنسبة ما طبعاً) ارتفع الخط البياني للقسمين ٢ و ٣، فتكون النتيجة تفسير صحيح يُعبّر عن الكينونة الحقيقية. أي وفق معادلة:

ذاكرة (ببيانات) + معالجة لها بمستوى واحد متساوي = تفسير صحيح مُجسّد للكينونة.

لا يفوتنا أن ننبه، أن نظرية المؤامرة، إنما هي قائمة على مؤامرة أيضاً، تسمّى ثالوث الشرّ وله أضلاعه المتكوّنة من: اقتصاد + سياسة + دين وإيديولوجيا بوسائل تتطور كما أسلفنا بتطور المجتمع بالطبع. ويكمن العلاج الحقيقي في المصبوب والصبيب، الإنسان، نعم الإنسان، عن طريق الصدق مع النفس والرغبة في ذلك، الإرادة في البحث عن الجديد، السير في المنهج العلمي، ورفض المقولب، عصف العقل بأسئلة تحريضية، عدم خشية السؤال، وإيجاد أساليب للتربية توجّه العقل لا تؤطّرهُ وتفتح له آفاقاً رحبة وتعمل على احترامه.

العدد 1104 - 24/4/2024