واقع التعليم ما بين الارتجال والارتحال

إيمان أحمد ونوس:

منذ عقود وواقع التعليم في سورية يُعاني مشاكل وصعوبات لم تلقَ العلاج المناسب حتى اليوم، وما زاد في حدّة هذه الصعوبات والأزمات دخول الاستثمار في مجال التعليم بعد صدور قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991.

إن المتابع لمجريات الأمور في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا يلمس الكمّ الهائل من المشاكل مثلما يلمس التخبّط الدائم ليس في اتخاذ القرارات بل ارتجالها في وزارتي التربية والتعليم العالي، ما يترك التلاميذ والطلبة والمُدرّسين وعموم الكادر المسؤول عن تلك العملية في ضياع وتيه وتشتّت لا يُحسدون عليه، خاصّة بعد نشوب الأزمة السياسية واندلاع الحرب عام 2011 وما خلّفته من تهجير للبشر وتدمير البنى التحتية في المدارس أو تدمير المدارس بشكل كامل ما جعلها خارج الخدمة بعد عودة المهجّرين إلى مناطقهم، وبالتالي ارتفاع نسب التسرّب المدرسي الذي يُفضي إلى ارتفاع نسب الأمية التي كادت أن تندثر في سورية قبل ذلك.

وبعد عشر سنوات حرب، ومع بدء المحاولات لترميم ما يمكن ترميمه، أو إصلاح ما يمكن إصلاحه، سواء على مستوى المناهج أو البنى التحتية أو تخفيف أعداد التلاميذ والطلاب في الشُعب الصفيّة، وقع العالم بأسره في قبضة كورونا ما فرض على الأنشطة البشرية كافّة شللاً شبه كامل لم يستثنِ المدارس والجامعات، بل كانت هي المُتضرّر والمجال الأول الذي أُغلق خشية تفشي المرض بين التلاميذ والطلبة بسبب الازدحام في المدارس والجامعات، وجميعنا يعلم ويعي ما حدث للطلبة نتيجة الحظر والحجر ووصول الفاقد التعليمي إلى مستوى ليس بالقليل، ما انعكس سلباً على امتحانات شهادتي التعليم الأساسي والثانوية العامة بفروعها حينذاك.

اليوم يحاول الكثيرون من المعنيين بالأمر (مدرسين، كوادر إدارية، مشرفين نفسيين وتربويين.. الخ) وبالطبع مشكورين لكل الجهود التي يبذلونها والأفكار التي يقدمونها من أجل تلافي النقص والضرر الحاصل جرّاء كل ما ذُكِرَ أعلاه.. ولكن، ما هي المساحات الممكن العمل عليها وفق الإمكانات المُتاحة سواء في وزارة التربية أو ملحقاتها من مديريات ومدارس ومُجمّعات تربوية؟  هل عدد المدارس الموجود يكفي لتلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من الطلبة في بعض المناطق التي استوعبت أعداداً كبيرة من المهجّرين والنازحين عن ديارهم؟ هل البنية التحتية (وسائل إيضاح، أجهزة كمبيوترات، مخابر بكل اختصاصاتها، باحات واسعة وحدائق، تُلبي حاجة التلاميذ في الحصص الفنية والرياضية.. الخ)؟ هل هذه الاحتياجات وفي مختلف هذه الهيئات جاهزة وكاملة وقادرة على تلبية ما تحتاجه العملية التعليمية؟ ثمّ، وهذا أحد أهم العناصر وهو الكادر التعليمي، فهل الكادر التعليمي كامل ومؤهّل للقيام بواجبه في التعاطي مع الطلبة والتلاميذ في مثل ظروفنا الطارئة (حرب، كورونا وزلزال)؟

نعلم جميعنا مدى الأثر النفسي الذي خلّفته الحرب بكل تبعاتها على التلاميذ الصغار بالدرجة الأولى، ومن بعدهم الطلبة الأكبر عمراً، إضافة إلى التسيّب الذي أحدثه وباء كورونا ومن ثم الزلزال في بعض المناطق، وهذا الوضع يفترض وجود كوادر مؤهّلة للتعامل مع مفرزاته النفسية والسلوكية للتلاميذ والطلبة، مثلما يستوجب تغييراً جوهرياً في الأسلوب والتعاطي مع أولئك التلاميذ في إيصال المعلومة بيسر وسلاسة تتناسب مع الوضع النفسي والسلوكي، إضافة إلى محاولة دمج الأطفال الذين يعانون ضغوطاً نفسية وسلوكيات مرفوضة أو منبوذة اجتماعياً وتربوياً، لاسيما النازحين والمُهجّرين منهم مع أقرانهم في المدرسة، وهذه باعتقادي هي مهمة الموجهين والمشرفين النفسيين والمرشدين الاجتماعيين بالدرجة الأولى بالتعاون مع الكادر التدريسي والإداري، وإن أردنا الوصول إلى نتائج أكثر إيجابية علينا القول بضرورة التعاون ما بين وزارة التربية ووزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية من حيث عرض بعض الحالات المُستعصية على خبراء أو اختصاصيين في العلاج السلوكي والنفسي.

لكن، ورغم مشروعية ما يتطلّبه الوضع في مدارسنا، نعلم تماماً أن تحقيق بعضه مستحيل أو شبه مستحيل بسبب نقص الإمكانات من جهة، وتجاهل المعنيين بالأمر في وزارة التربية لهذه المتطلبات من جهة أخرى، وعليه لم يبقَ أمامنا سوى محاولة الاعتماد على الذات (بالنسبة للمدرسين وباقي الكادر الإداري والإرشادي) في معالجة ما يمكن معالجته على مختلف المستويات، وهذا ما دفع بالعديد من هذه الكوادر مشكورة لطرح بعض المبادرات والخطط التي من شأنها المساعدة على تخطّي العديد من الأزمات والإشكاليات التي يتعرضون لها من جهة، ولتلافي النقص والفاقد التعليمي بسبب الظروف الحاصلة اليوم. وهنا لا يسعني إلاّ الانحناء لتلك الكوادر وتقدير جهودها وأفكارها ومحاولاتها في الوقت الذي تتجاهل الوزارات المعنية وأوّلها وزارة التربية واجباتها والمطلوب منها تيسيره وتسهيله.

كما علينا ألاّ نبالغ في رؤيتنا المثالية لما نريد أن يكون عليه الحال ضمن إمكانات محدودة، فمثلاً فكرة التعليم عن بعد أثبتت فشلها حين رغبت وزارة التربية استدراك الفاقد التعليمي بسبب كورونا، وذلك لأسباب تتعلّق بالمنظومة الذهنية التي يحملها المجتمع تجاه التعليم التقليدي، إضافة إلى انعدام انسياب الانترنت مترافقاً مع انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة في غالبية المناطق ما يُعيق التلاميذ والطلبة من الوصول إلى القناة التعليمية التي تبثُّ على الهواء مباشرة بعض الدروس. والأهم بنظري هو عدم امتلاك غالبية الأُسر لأجهزة كمبيوتر أو موبايلات ذكية تُمكّن الأبناء من الوصول إلى القناة أو الجهة التي تقوم بتلك المهمة. يُضاف إلى هذا كله خاصيّة التسيّب التي يتصف بها التلاميذ والطلبة وهي خاصيّة طبيعية في هذه الأعمار لا تنتظم سوى بالتوجيه والتدريب من قبل الأهل والمعنيين بالأمر في المدارس مباشرة.

من جهة أخرى، ومن واقع العديد من المدارس في القطر، نجد الاكتظاظ الكبير للطلاب في الشُعب الصفيّة، فقد وصل عدد الطلاب في بعض هذه الشُعَب إلى ما بين 60 و 70 طالباً (خلال التحضير لاستقبال العام الدراسي الجديد) خاصّة في المناطق التي تزدحم بالنازحين والمهجّرين. في ظل هذا العدد الكبير، كيف سيتسنى للمدرّس وللطلبة بآن معاً الوصول للمعلومة بيسر وسلاسة وهدوء؟ وفي ظلّ تقليص زمن الحصص الدرسية منذ بدء العمل بعطلة الجمعة والسبت، ما حجم المعلومات التي يمكن أن يحصل عليها الطالب؟ وهل الوقت المُتاح، والعدد الكبير للطلبة في الصف، يمكنه أن يسمح للمدرّس بالقيام بعمله بشكل طبيعي وآمن؟ ثمّ، هناك توجّه لإلغاء الحصص الفنية (رياضة، رسم، موسيقا) بهدف إنهاء برامج المواد الأخرى في موعدها المُحدّد.. فهل إلغاء هذه المواد سيُساعد فعلاً على الوصول إلى الغايات التي تنشدها وزارة التربية؟ وهل هذا الإلغاء صحي ومنطقي لاسيما في مثل الظروف الحالية التي يعيشها الطلبة في المدارس؟ كلنا يعلم أهمية هذه الحصص والمواد لتنشيط الطفل وتحسين مستواه النفسي وتفريغ طاقاته من أجل إكمال ما ينتظره من مواد علمية أخرى.

فما الحل؟؟

لا شكّ أن لكلٍّ منّا رؤية وحلّاً، لكن قد لا يمكن تحقيق بعضها ضمن الشروط والظروف القائمة والتي ذكرت بعضها أعلاه.. وباعتقادي، علينا بالفعل كمعنيين بالأمر التنسيق مع هيئات المجتمع المحلي والمدني من أجل تحقيق الحدّ الأدنى ممّا يستوجبه استكمال التعليم مهما كانت الظروف تجنّباً لحالة التسرّب المدرسي التي بلغت درجاتها القصوى في بعض المناطق، وتجنّباً لعودة تفشي الأميّة التي كانت سورية على وشك التخلّص منها قبل نشوب الحرب.

العدد 1104 - 24/4/2024