الواقع والمسألة التاريخية

يونس صالح:

إذا جاز لنا أن نطلق على التاريخ اسم الزمن، حتى يشمل الماضي والحاضر ويمتد للمستقبل، نستخلص من الماضي الخبرة المتراكمة، يصبح الزمن عندنا بهذا المعنى هو التجربة التاريخية بكل ما تتضمنه من خصوصية.

وليس يسيراً مناقشة هذه التجربة بالكامل، وأكتفي هنا بالتركيز على بعض قضاياها، من أجل فهم أفضل لتجربتنا المعاصرة.

فما أحوجنا إلى غرس الوعي التاريخي، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين رضوا الحياة خارج الزمن! فهل هناك سبيل ينتشلهم من هذه الحالة؟

إن خلق مناخ عام في البلاد ينطلق من اعتبار أن العطاء الإنساني وحده هو الذي يثري التاريخ ويدفعه نحو التقدم، هو الذي يجذب أولئك الناس إلى المساهمة في العمل العام. إن الزمن يمضي، ومن الضروري مواكبته، وإن مجرد التوقف عن الفعل يدفع بنا خارج الزمن.. ومن هنا أهمية رصد حركة التاريخ الذي لا يكتفي بدراسة الماضي وتحليله، بل بوصله بالحاضر حتى يتحدد دور كل مواطن في بناء المستقبل، على ألّا يقتصر هذا الرصد على بطولات الحكام والقادة والزعماء، بل يمتد ويشمل تحليل التحولات الاجتماعية والاقتصادية ومدى مساهمة الإنسان في تلك التحولات.

ونتساءل: هل يعيد التاريخ نفسه؟ أنا لا أتفق مع القائلين بهذه المقولة، حتى إذا ظهر وكأن بعض أحداث التاريخ تتكرر، فالحياة في تبدل وتطور مستمر، إذا تشابهت مراحلها في بعض الوجوه، فإنها تختلف وتتباين في وجوه أخرى.

وحركة التاريخ ليست تياراً واحداً، بل هي تيارات متعددة يستحيل أن تسير على نسق واحد، والتاريخ هو علم المتغيرات، إذ تؤكد قوانينه على أن ما جرى في الماضي لا يمكن له أن يتكرر بالصورة ذاتها في المستقبل.. فالعوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تبدل مستمر، وكل حلقة منها هي جزء من سلسلة تقود إلى ما بعدها.

 

واقعنا والتاريخ

يمر واقعنا في اللحظة التاريخية الراهنة بمرحلة حاسمة من الحركة والجدلية، فهل لنا أن نتوقف من أجل مراجعة تجربة الماضي، ونبحث أصل المشكلات والمصاعب التي تواجهنا؟ فكل مؤشرات التحول والتغيير تكمن في هذا الواقع الذي يبدو أحياناً للبعض مأسوياً ميئوساً منه، ولكن ما يقع أمام أنظارنا لا يعدو سوى صراع بين قوى التقدم والتخلف.

وهنا يبرز دور المثقف الذي يقع عليه عبء إخضاع التجارب السابقة للنقد الموضوعي العقلاني، بدلاً من إدانة الماضي من منطلق الشعور باليأس، مما ينتهي إلى ظلام العزلة عن مجتمعه، كما عليه أن يكف عن تصوير كل التجارب التاريخية بصورة زاهية مما يحول بينه وبين الاستفادة من هذه التجارب.

إن النظر إلى الماضي بمنظار يائس أو بمنظار متحيز يعني عدم استيعاب المسألة التاريخية بأبعادها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فتاريخ الشعوب يمر بفترات من الصعود والهبوط، ويجب إخضاع هذه الفترات للبحث من أجل فهم الحاضر، والاستعداد لمواجهة المستقبل.

إن واقعنا يواجه العديد من السلبيات، ومنها تلك الفجوة التي يعيشها بعض المثقفين بين ما يعتقدونه وما يمارسونه.. كما أن هناك حالة تبسيط للعديد من القضايا يلجأ إليها المثقفون لتجنب مواجهة قضايا التحول الاجتماعي، وهنا نتساءل:

ما الذي يمنع النظرة النقدية إلى الماضي؟؟ هل لأنه مقدس إلى درجة تحريم نقده؟ ثم هل يقف فهم البعد التاريخي عند حدود الماضي؟

إن إجابة هذه التساؤلات لا يمكن توفرها من دون الوعي التاريخي، فهو دليلنا لفهم أعمق للأحداث المعاصرة التي تجري، وليس المجال هنا يسمح بتقييم ونقد هذه الأحداث الجسام التي تؤثر على الواقع، وسيمتد تأثيرها بعيداً في المستقبل.. لكن قراءة التاريخ لا تكفي، والمهم الاستفادة منه في الحاضر من أجل المستقبل.. وهذا لا يتحقق إلا بالوعي التاريخي أيضاً، فهو يعني الاستفادة من تجارب الماضي لصالح الحاضر والمستقبل، وليس على حساب الحاضر والمستقبل، ويمكن توفر هذا الوعي بالنقد الذي يجب أن يشمل جميع نواحي الحياة في مجتمعنا، فهو الرئة التي يستطيع المجتمع أن يتنفس بواسطتها ليعرف مواطن الضعف في حياته كي يتمكن من التطلع إلى الأمام بخطا ثابتة وواعية.

إن تلك الدروس لا يستطيع استيعابها إلا الإنسان المثقف الملتزم بقضايا شعبه، لكن المثقف هو وليد بيئته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبما أن واقعنا هذا قد عاش ولايزال نكسات متتالية، وتخريباً متواصلاً، فإن الفكر التقليدي الذي لا يسمح بنقد الذات، والفكر الانتقائي الذي لا يتوفر فيه التعميم أو محاولات التغريب بصورة مصطنعة بحجة المعاصرة، كل ذلك أدى إلى استلاب في الفكر على حساب المساهمة الثقافية الفعلية في تطور واقعنا حضارياً، وأدى إلى تذبذب الثقافة عندنا وازدواجية الكثير من المثقفين.

لا يستطيع المثقف عندنا أن يؤدي دوره في هذا الزمن الصعب، إلا إذا توفر لديه الوعي التاريخي للمشكلات القائمة، والقدرة على تحليلها علمياً لرسم صورة المستقبل، وهي بالفعل رسالة تاريخية لابد من الاضطلاع بها لمواجهة واقعنا المعقد والمتخلف والصعب، وإحداث النهضة المطلوبة.

العدد 1104 - 24/4/2024