تلك التي لا يتسع لها الكلام

حسين خليفة:

ربما كانت الأمومة هي حالة مُكمّلة للأنوثة بشكل من الأشكال، فالأنثى التي لم تتح لها الطبيعة أو ظروف الحياة أن تصبح أماً هي أنثى مكلومة، تمضي الوقت في الحلم باحتضان طفل خرج من رحمها إلى الحياة، وتعيش حزنها الخاص.

الأنثى حين تصبح أمّاً تخرج من رداء الطفولة الذي تبقى مرتدية إياه حتى وهي صبية يانعة، إذ إن حنو الأبوين وحرصهما عليها يبقيها في جو الطفولة، ثم يأتي الحبيب أو الزوج الذي قد يكون أكثر حناناً وحرصاً على طفلته الكبيرة التي أخذها من دفء عائلتها إلى بيتهما المشترك، وقد يكون رجلاً مريضاً قاسياً أقرب إلى حيوان يقضي شهوته ويمضي، بل يتفوق أحياناً على الحيوان في أنه يقوم بتعذيبها والتنكيل بها طوال حياتهما المشتركة.

مهلاً!

أليست هناك نساء يقلبن حياة الشريك إلى جحيم حتى لو كان ملاكاً معها؟!

ـ نعم، هناك، لكن الحالة العامة للمرأة هي الحرص على العائلة والزوج والاعتناء بهما والبحث عن أفضل ما يمكن أن تقدمه لأولادها ولزوجها.

عندما تصبح الأنثى أمّاً، قد لا تشعر هي بمدى الانقلاب الذي حدث في حياتها وفي تصرفاتها وفي تعاملها مع الآخرين. لكن المحيط المتأمّل في ما كانت هذه الفتاة قبل الأمومة وفي ما أصبحته بعدها يلاحظ كم أنّ هناك إنسانة جديدة ولدت مع ولادة طفلها! كما لو أن الأمومة غسلتها من أدران البشر فغدت إنساناً مختلفاً!

التفاصيل التي نعرفها جميعاً، والتي تردّدت مراراً على ألسنة الناس، في الأعمال الادبية والفنية، من سهر الليل، الاستيقاظ من عز النوم في أيام الشتاء الباردة، غسيل ما يتركه الطفل على جسمه من فضلات بكل رضاً وقبول، الحرص على اختيار طعام الولد وملابسه حتى يكبر وتأتي امرأة أخرى (أو رجل آخر بالنسبة للابنة) تختار له/ا ما يجب ان يأكل وما يجب أن يلبس.. الخ من تفاصيل لا تنتهي للأمومة التي هي مسيرة حياة تبدأ مع الولادة ولا تنتهي إلّا بعد الموت.

هذه التفاصيل الصغيرة المنمنمة الجميلة إضافة الى الحبل السري الذي يبقى موصولاً بين الولد وأمه بعد الولادة، يبقى غير مرئي سوى للأم وولدها، هي التي تجعل من كل إنسان، المثقف والجاهل، المحترم والأزعر، المؤمن والملحد، المسالم والمجرم، تجعل من كل إنسان متعلقاً بتلك المرأة التي يراها مقدّسة حتى لو كانت عاهرة، يراها أنظف الناس حتى لو كانت غارقة في القذارة، يرى لمستها أدفأ من كل النساء حتى لو كانت يداها متخشبتين متشققتين من الفقر والزمن.

لا داعي لأن نبحث عن تفسير لهذا التعلّق (المرضي) بين الأم وأولادها، التعلّق الذي لا يمكن أن تفكّه حادثة أو موقف أو نشوز من أحدهما.

الأديان والعقائد والأعمال الأدبية والفنية الخالدة، الحكايات الشعبية، الطبيعة بأنهارها وعشبها وأشجارها، بحيواناتها التي لا نعرف إحصاء لها، كلها تنطق بسيرة الأم، الأم التي تقف خلف كل ما نراه، كلّ ما نسمّيه الحياة.

إنها هي الحياة.

يا أمي!

عندما أقطع تلك المسافة إليك، أصل إليك منهكاً من تعب اليوم، من أثقال الحياة، من حصار نعيشه وتعيشينه، أجدكِ كما عرفتكِ أول مرة حين جئتِ بي إلى هذه الحياة:
أجمل النساء، دافئة كنهار مشمس، واسعة كبلاد نحلم بها ولا تأتي، تسألينني عن كل شيء (لا تصدّقين الآخرين وأصحاب الاختصاص، تصدّقينني أنا فقط): احتمالات المطر، أنواع الأدوية الكثيرة التي تأخذينها، آثارها الجانبية وتاريخ صلاحيتها، أسعار العملات أيضاً، وحتى أخبار البلاد ومتى سترتاح من هذا اللوياثان.

تتدخلين في شكلي وملابسي وأصدقائي.

تسألين عن كل فرد من عائلتي بالحب نفسه الذي تضمّينني به.

حينذاك، أجد نفسي أسعد إنسان، أمضغ أحزاني كلها دفعة واحدة، وأشرب خلفها كأس ماء، ثم أمضي في حياتي كأني ولدتُ من جديد.

++++++++++++

  • إنسانة جديدة ولدت مع ولادة طفلها! كما لو أن الأمومة غسلتها من أدران البشر فغدت إنساناً مختلفاً!
  • أمّي.. أجمل النساء، دافئة كنهار مشمس، واسعة كبلادٍ نحلم بها ولا تأتي
العدد 1105 - 01/5/2024