الإنسان العربي.. يولد ويموت في الهمّ والوهم

إيمان أحمد ونوس:

في كتابه طوق الياسمين، يقول الأديب الجزائري واسيني الأعرج:

(الإنسان العربي هكذا يولد ويموت في الهمّ، وكلما رأى شُعاعاً صغيراً في الأفق، شعر بتخمة في السعادة، وعندما يقترب يصفعه السراب القاتل. الإنسان العربي لا يعرف أنه كلما خطا خطوة إلى الأمام مُتحاشياً المزالق السابقة، وجد في طريقه من يأخذ بيده ويزجُّ به نحو الحُفر والمدافن).

وحقيقةً، إذا ما تمعنّا جيداً بواقع وحياة الإنسان العربي عبر العصور، نجد أنه منذ نشوء الممالك والدول والدويلات، وقبلها، تتالي حكم الخلفاء من الراشدين وصولاً إلى العباسيين، ومع اتجاه الإسلام للفتوحات وإقامة نظام الخلافة في مشرق الأرض ومغربها بما كانت عليه من سياسات بعضها إيجابي من حيث الانفتاح على الثقافات والعلوم الأخرى وتنشيط حركات التأليف والترجمة في مناخ من الحريات الفكرية وحتى السياسية، بينما اعترى عصر خلافات أخرى جمود وتقييد للحريات والعلوم والثقافة، ما أدى إلى حالة من القمع والترهيب الذي لاقاه الأفراد عموماً والأدباء والعلماء والفلاسفة خصوصاً، ولنا في سيرة ابن رشد وحرق مؤلّفاته نموذجاً مؤسفاً.. وهكذا حتى وصلنا إلى عصر الإمبراطورية العثمانية التي قامت على مبدأ الخلافة الاسلامية، فكانت أشدَّ تخلّفاً ممّا سبقها من عصور، وجميعنا يعرف تاريخ تلك الحقبة والواقع الذي كان عليه الإنسان العربي والبلاد العربية على مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والفكرية والاقتصادية …الخ. وليت الأمر اقتصر على هذا الوضع، فبعد انهيار تلك الامبراطورية غير مأسوف عليها، وما إن بدأت بعض ملامح الاستقلال بالظهور عبر الحركات والجمعيات السياسية والثقافية والفكرية التي نشأت خلال العهد العثماني، والهادفة إلى تحرير العقل العربي من كل ما علق به، ظهر الانتداب الأوربي على مختلف الدويلات والدول العربية التي كانت تحت سيطرة العثمانيين كغنائم حرب، وبالتالي عاد التخلّف والقهر ليستبد بالعرب عموماً عبر تقييد حركات النهوض السياسي والاقتصادي وإجهاضها قبل أن ترى النور. ليس هذا وحسب، بل عمل على تفتيت العديد من الدول إلى دويلات وإمارات وممالك ليسهل السيطرة عليها وعلى مقدرات شعوبها، ممّا قاد لثورات متلاحقة أدّت أخيراً إلى نيل بعض الدول استقلالها أواسط القرن العشرين وبقاء بعضها الآخر تحت السيطرة. غير أن جميعنا يعرف ويعي أن هذا الاستقلال لم يكن إلاّ استقلالاً عسكرياً تمثّل برحيل الجيوش الغربية فقط، بينما بقيت السيطرة الاقتصادية والسياسية على الأنظمة التي استولت على الحكم (أو تلك التي نصّبتها الدول المُستعمِرَة) في غالبية تلك البلدان وما زالت هذه السيطرة مستمرة حتى وقتنا الراهن.

بعد هذا الاستعراض لتاريخ الواقع العربي نجد أنه واقع متخلّف بكل ما تحمله مفردة التخلّف من معانٍ ودلالات ماثلة في حياة الفرد والمجتمع والدولة على مختلف الأصعدة الاقتصادية والصناعية والفكرية والعلمية والثقافية وحتى الزراعية (رغم أننا بلدان زراعية أساساً) ناتج السيطرة الخارجية من جهة، وسياسات الاستبداد التي مارستها وما زالت غالبية الأنظمة العربية على شعوبها من جهة أخرى، ما أبقى تلك الشعوب أسيرة هذا الاستبداد والتخلّف عقوداً مديدة جعلت من هذا سمة أساسية للشخصية العربية في نظر شعوب العالم قاطبةً.

لا شكّ أن هذا الواقع المُزري قد ترك الإنسان العربي في حالة من الخمول بسبب الفقر المادي والروحي والفكري الذي ساد نتيجة سياسات القمع والفردية واحتكار السلطة، إضافة إلى سطوة الفساد السياسي والاقتصادي ممّا أدى إلى اغتيال الديمقراطية التي كانت تصبو إليها غالبية الشعوب، وبالتالي اغتيال الحقوق التي نصّت عليها الدساتير، في ظلّ بقاء الواجبات هي الحاضر الأكبر في حياة كل مواطن، واجبات مُضنية سواء في الصمود والتصدي لمواجهة الأطماع الخارجية الاستعمارية والاقتصادية وبعبع إملاءات صندوق النقد الدولي وغيره من مؤسسات دولية تسعى لتكبيل اقتصاد الدول النامية، في الوقت الذي كانت السياسات الاقتصادية في تلك البلدان تسير في ركب المؤسسات والدول الغربية خدمة لمصالح الطبقات الحاكمة ومن في حكمها، ما أدى لإفقار الشعوب وتركها تلهث وراء لقمة العيش التي ربما لا تتمكّن من الحصول عليها رغم الخيرات والثروات الوفيرة في بلدانها. وأيضاً لن نُغفل مسألة التصدي لمطامح وأطماع سرطان ابتُليت به بلادنا العربية اسمه (إسرائيل) وما تبعها من إنفاق الملايين من أجل التسلّح على مدى ما يُقارب قرناً من الزمن، ممّا أوقف وأعاق غالبية خطط التنمية بذريعة التصدي والمواجهة، ورصد كل الإمكانات المادية والعسكرية لها حتى لم يبقَ لنا سوى الفتات، في الوقت الذي لم نُحقّق فيه إلاّ المزيد من الهزائم والخيبات بقدر الفقر والتخلّف والقهر الذي استبدّ بنا حتى خلناه من نسغ تكويننا ووجودنا وقدرنا المحتوم الذي تحدّثت عنه الأديان وعزّزه بعض رجال الدين الذين كانوا وما زالوا في خدمة الأنظمة وترسيخاً لاستمرارها بما هي عليه من الاستبداد وعدم المساواة والعدالة في توزيع الثروات التي تنبع شلالات من ثروات لم يكن للشعوب يوماً منها نصيب إلاّ بمقدار ما تسمح به الأنظمة الحاكمة والمُتحكّمة بمصير البلاد والعباد.

نعم، هو ذا واقع الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، واقع مأساوي ومُفجع جعلها رغم كل المقدرات والإمكانات والثروات بعيدة كل البعد عن التطوّر والتقدّم باتجاه العلوم التي ما زالت مستهلكة لها بدل أن تكون مساهمة فيها، ومقصيّة عن المشاركة في صوغ تراتيل الحضارة الإنسانية.

العدد 1104 - 24/4/2024